
تتجلى الشواهد المضيئة من شخصية الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود -رحمه الله- باعتزازه بالعِلم والثقافة واهتمامه الشخصي بهما في حياته، وفي تشجيع أبنائه الشباب على علو همتهم، وحرصه على غرس وتعزيز القيَّم في نفوسهم، والحفاظ على هويتهم، وحثهم على اقتران العلم بالعمل، ومع انشغاله -رحمه الله- بتوحيد الأرض وبناء الدولة، إلا أن رؤيته الواسعة جعلته يُدرك مبكرًا، أن النهضة الحقيقية ومستقبل المملكة مرهونان بسواعد جيلٍ واعٍ ومتعلمٍ، يمضي قُدُمًا بوطنه لرفعته بين الأمم.
يقول خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله-: "تاريخ الملك عبدالعزيز -رحمه الله- لا يقتصر على جوانب الكفاح وإنجازات التوحيد والبناء فحسب، التي هي مهمة ومعلومة للجميع، وإنما يتضمن جوانب كثيرة تبرز فيها شخصيته الإنسانية".
ومن بين ثنايا كلمة الملك عبدالعزيز -رحمه الله- الحاضرة في الذاكرة الوطنية التي ألقاها عام 1350هـ/1931م في حفل تخرج طلاب المعهد العلمي السعودي، نستقرئ جوانب من شخصيته الملهمة؛ إذ قال -رحمه الله-: "أبنائي من كان منكم من بيت رفيع، فليحرص على ألا يكون سببًا في خفضه، ومن كان من بيت آخر، فليبنِ لنفسه مجدًا، فقد منّ الله عليكم، وأرشدكم إلى طرق الخير، فاعلموا إنّا لعملكم منتظرون والله ولي التوفيق"، ثم واصل -رحمه الله- حديثه إليهم بصفته المعلم والقدوة: "أيها الأبناء، إنكم أول ثمرة من غرسنا الذي غرسناه في المعهد، فاعرفوا قدر ما تلقيتموه فيه من العلم، واعلموا أن العلم بلا عمل، كشجرة بلا ثمر، وأن العلم كما يكون عونًا لصاحبه، يكون عونًا عليه، وليس من يعلم كمن لا يعلم، قليل من العلم يبارك فيه خير من كثير لا يبارك فيه، والبركة في العمل".
ولم يكتفِ بذلك، بل شدد على أهمية الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية بوصفها عماد الانتماء والنهضة، فقال: "وُبعث صفوة الخلق، اللهم صل وسلم عليه من العرب، ونزل عليه أمين السماء، في بلاد العرب، بقرآن عربي غير ذي عوج، فلنعرف قدر ذلك، ولنحفظ ديننا ولغتنا وبلادنا، ولنحبها حبًّا جمًّا".
ومن أبرز تجليات شخصية الملك عبدالعزيز العلمية والثقافية، ورغم انشغاله -رحمه الله- بأمور السياسة ومواجهة التحديات وإكمال مشروع توحيد البلاد، إلا أنه كان حريصًا على القراءة واقتناء الكتب، ولا أدل على ذلك مما أورثه من مكتبة ضخمة بلغ مجموع ما تحويه أكثر من (3000) كتاب، جمعها خلال فترة حياته، شملت: المؤلفات، والدوريات، والمجلدات النادرة، وعُدّت مكتبته من المصادر المهمة للتاريخ الحديث في المملكة، خاصة ما يتعلق بعلاقة الملك عبدالعزيز -رحمه الله- بالعلم والمعرفة، كما تحمل كتبها في طياتها، وأغلفتها عبارات وشواهد تاريخية سطرها العديد من المؤرخين والمؤلفين المعروفين في العالمين العربي والإسلامي في ذلك الزمان.
وقد عُرف -رحمه الله- بأنه شغوف بالاطّلاع على الكتب العربية المعنية بمختلف العلوم خاصة العلوم الشرعيّة وطباعة معظمها على نفقته الخاصة ووقفها وتوزيعها مجانًا للاستفادة منها في عموم المملكة وخارجها، ولم يتوقف -رحمه الله- عن إمداد المكتبة الإسلامية بالكتب القيمة وتنشيط الحركة العلمية والثقافية في تلك الفترة، حتى مع افتقار المنطقة إلى المطابع، وارتفاع تكاليف الطباعة.
وفي بحث بعنوان "عناية الملك عبدالعزيز بنشر الكتب" لعبدالعزيز بن أحمد الرفاعي من بحوث مجلة دارة الملك عبدالعزيز، ذكر أن الملك عبدالعزيز -رحمه الله- حصل على تعليمه الأولي في قصر والده بالرياض، حيث تعلم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ سورًا من القرآن وقرأه كاملًا، وتلَّقى بعض أصول الفقه والتوحيد، ورغم المهام العظام التي اضطلع بها، والحروب التي خاضها والمشاكل التي واجهها، والتبعات الكبيرة التي تحملها، فقد كان على علاقة وثيقة بالعلم والعلماء، وكان وثيق الصلة بالقرآن الكريم يقرأ من آياته كل صباح، ومتى صلى الفجر سبح وقرأ ورد الصباح، وكان له ورد خاص به جمعه لنفسه مختارًا من الأدعية، فإذا جاء المساء كانت له جلسة فيها علم ومدارسة، فقد اعتاد بعد العشاء أن يستمع إلى قارئ معين يقرأ عليه من كتب العلم والتاريخ.
وعرف عنه إكبار العلماء وإجلالهم، والأخذ بنصائحهم ما دامت مستندة إلى الكتاب والسنة وكان للملك عبدالعزيز -رحمه الله- مجلس خاص للاطّلاع والمعرفة، وهو مجلس يومي ينعقد في قصره بعد العشاء، يقرأ فيه قارئ مخصوص في كتب علم معينة، وكثيرًا ما تنبثق من هذه القراءة موضوعات للمناقشة والحوار يثيرها الملك -رحمه الله- ويشترك فيها بعض الحاضرين.
وبيَّن الرفاعي أن الذين تابعوا خطب الملك عبدالعزيز -رحمه الله- في المناسبات الكبرى يدركون أثر مثل هذا التحصيل في نفسه، وأنه كان يتمتع بذاكرة جيدة، تختزن الكثير من هذه المعلومات التي كانت تمر به، إلى جانب ما حصله من أيام الصبا، ولا يقتصر الأمر في ظهور أثر هذه الثقافة على خطبه، بل ظهر أيضًا في حديثه إذا اتسم هذا الحديث بالتوجيه والإرشاد والنصيحة.
وأورد الدكتور عبدالله بن عبدالرحيم عسيلان في بحثه "عناية الملك عبدالعزيز بالكتب اطلاعًا ونشرًا" أن عددًا من المصادر المعنية بسيرة الملك عبدالعزيز استعرضت أنه كـان مولعـًا بحـب القراءة والاطلاع، ويحرص على تخصيص جزء من وقته في حلّه وترحاله للقراءة في أمهات الكتب، بل يأنس بها ولا تفارقه في أسفاره، ويؤكد ذلك حديث يوسف ياسين في كتابه الرحلة الملكية، حين أشار إلى أن السلطان كان ينادي إذا أغذ الركب في السير أحد طلاب العلم من أبناء الشـيخ ليقـرأ فـي صـحيح مسـلم، ثـم يقـرأ مـن تـاريخ ابـن الأثيـر مـا يتعلـق بالسـيرة النبويـة، ويتكـرر هـذا الموقـف فـي أثنـاء الرحلـــة بقـــراءة كتـــاب الترغيـــب والترهيـــب، وكتـــاب الآداب الشرعية لابن مفلح، وهــذا يعنــي أن الملــك عبدالعزيــز كــان يصــطحب معـه فــي ســفره مجموعـــة مـــن الكتـــب بقصـــد قراءتهـــا، والإفادة منهـــا، فـــي قـــراءة جماعيـــة، وأحيانـًا قد يختلـي بنفسـه للقراءة الفردية، ويمضـي الحـال علـى هـذا المنـوال طوال مدة المسير.
ريادته في نشر العلم والثقافة
اتسمت مجالس العلم التي كان يعقدها الملك عبدالعزيز في قصره -رحمه الله- بالتعلم والنصح والارتقاء بالوعي الديني والثقافي، فبعد انتهاء كل موسم حج، كان يتوافد على قصره الضيوف والــزوار للتشرف بمقابلته وحضور مجالس العلم، ففي حج عام 1355هــ/1937م، امتلأ القصر الملكي بالحضور، وكـان يقابلهم بما عُرف عنه بالكرم والحفاوة، ومع حلول الـمسـاء، كـان يعقد في قصره العامر مجالس العلم، إذ يـحضر إليها العلماء والــــزوار والأعيان من مختلف الـــبلاد، ويجلس الملك عبدالعزيز في صالة الاستقبال الكبيرة، ويستمع إلى أحد العلماء وهو يقدم دروسًـا في الحديث والفقه، لمدة نصف ساعة أو أكثر، وعند انتهاء الدرس، كان الملك عبدالعزيز يتحدث بالحكمة واللين، محسنًا إلى الحاضرين بعذب القول، وملهمًا لهم بالنصح القيم، ليغرس في نفوسهم روح العلم والعمل الصالح، ويؤكد قيمة الحوار والثقافة في المجتمع.
وبحسب كتاب طباعة الكتب ووقفها عند الملك عبدالعزيز -دراسة تحليلية وقائمة ببليوجرافية- لمؤلفه عبدالرحمن الشقير الصادر عن دارة الملك عبدالعزيز، فقد أسهم الملك عبدالعزيز في هذا المجال بدءًا من سنة 1353هـ، وأمر بطباعة أعداد كبيرة من الكتب الشرعية واستمر على هذا النهج حتى وفاته -رحمه الله-، وقد كانت كميات الكتب التي أمر جلالته بطباعتها حافزًا مشجعًا لنشاط حركة التأليف في البلاد، وتحقيق المخطوطات؛ مما كان له الأثر في زيادة أعداد المطابع.
ويتضح من دراسة مادة الببليوجرافيا التاريخية للكتب، التي أمر الملك عبدالعزيز بطباعتها أو المطبوعات التي أمر بتوزيعها، نجد أن منهج النشر يتسم بميزات شمولية ذات علاقة بالجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل البلاد وخارجها، ولها صلة مباشرة بالأوضاع السائدة في تلك الفترة.
وعندما أنشئت مطبعة أم القرى الحكومية بمكة المكرمة أسهمت في تحمل طباعة الكتب بشكل فعَّال، حتى أصبحت تعد المطبعة المركزية التي تتولى طباعة المطبوعات الحكومية، وأنظمة الدولة، وجريدة أم القرى الرسمية، والتقاويم السنوية الهجرية، والمناهج الدراسية، إضافة إلى الكتب التي تطبع للتسويق التجاري، والكتب التي تطبع على نفقته، حتى إنه يصح عدُّ الأنشطة التي صدرت عن مطبعة أم القرى أساس النهضة الفكرية في المملكة العربية السعودية في عهد الملك عبدالعزيز -رحمه الله-.
ومما تميزت به أوامر الملك عبدالعزيز طباعة نفائس كتب التراث وكتب العلم المهمة، أو ما يتصل بالدعوة أو الكتب الأدبية أو الشعرية التي كان يرى تشجيع أصحابها بنشرها على حسابه، وقد ينبثق بعض هذا التوجيه عن نصائح العلماء أو مستشاريه، وكان من المعروف أن جلساء الملك عبدالعزيز من صفوة الرجال علمًا وأدبًا ورجاحة عقل.
الطباعة والنشر في عهد الملك عبدالعزيز
شهد عهد الملك عبدالعزيز انتشارًا واسعًا للكتب، وصدور نظامين للمطبوعات، الأول عام 1347هـ/1928م، والثاني عام 1358هـ/1939م؛ وبهدف تشجيع النشر ودعمه، أمر الملك عبدالعزيز بإعفاء واردات الورق والآلات لمطابع في مكة المكرمة، وجدة، والمدينة المنورة، من الرسوم الجمركية، وفي عهده جُددت المطبعة الحكومية (الأميرية) بمكة المكرمة، واشترت الحكومة السعودية مطابع أهلية صغيرة، ودمجتها مع المطبعة الحكومية، وأسست مطابع أم القرى، التي سميت لاحقًا "مطبعة الحكومة"، واستخدمت في طباعة القرارات والتعليمات الحكومية، كما ظهرت مطابع أخرى في مكة المكرمة، منها المطبعة الماجدية، والمطبعة العربية, فيما كان في المدينة المنورة مطبعة استوردت عام 1355هـ/1936م، وضمت جدة حينها ثلاث مطابع، هي: مطبعة الشركة العربية، والمطبعة الشرقية، ومطبعة الفتح.
تبنَّى الملك عبدالعزيز طباعة الكتب الأدبية والدينية والتراثية، وكتب تفسير القرآن الكريم، ونشرها داخل السعودية وخارجها، في العالمين العربي والإسلامي، خلال الفترة من عام 1335هـ/1917م، إلى 1373هـ/1954م، وبلغ عدد الكتب المطبوعة خلال هذه الفترة نحو (100) كتاب، ووصل عدد نسخها إلى (100) ألف نسخة، بعضها بلغات أخرى غير العربية، مثل: الهندية، والجاوية، ومنها ما جرى تحقيقه، وكان الملك عبدالعزيز حريصًا على إيصال هذه الكتب إلى طلبة كلية الشريعة، وتوزيعها عليهم مجانًا.
وأوردت جريدة أم القرى في عددها (177) بتاريخ 14 من ذي القعدة 1346هـ، أن الملك عبدالعزيز -رحمه الله- قد أمر بطابعة (64) ألف كتاب، وتوزيعها مجانًا وذلك خلال عامين، وبعد عام واحد من نشر هذا الخبر نُشر خبر مماثل يشير إلى ارتفاع عدد الكتب المطبوعة إلى أكثر من (100) ألف كتاب، وجميعها مخصصة للتوزيع مجانًا على طلبة العلم داخل المملكة وخارجها، وكانت هذه الكتب المطبوعة في الخارج تصل عن طريق ميناءي العقير على الخليج العربي، وجدة على البحر الأحمر.
وقد تفضل بإهداء مجموعة الكتب المطبوعة إلى مكتبة الحرم المكي، كما تفضل بإهداء مماثل للمعهد الشرعي بالطائف بواقع نسختين كاملتين من جميع المطبوعات، وللمكتبات العامة، وشمل الأمر الملكي بتخصيص نسخة من مجموعة الكتب التي أمر بطباعتها أو بشرائها كي توزع على طلبة كلية الشريعة في المملكة، واهتمامه شخصيًّا بمدى وصول مطبوعاته إلى طلبة العلم في كل مكان، وعرف عنه تشجيعه لأبنائه والعلماء والمفكرين والمقتدرين بوقف الكتب ونشرها، وهو ما أسهم في العناية بالكتب، ودعم حركة النشر والمعرفة.