هذه الأيام نغلق ملفات الكثير من القضايا التعليمية والمدرسية، ونحاول إنهاء كل ما بدأنا به هذا العام المليء بالتجارب والخبرات العلمية والعملية، ولأن المؤسسات التعليمية ليست أماكن لتصدير المعرفة فقط؛ بل إنها مقرّ للكثير من السلوكيات التربوية المؤثرة سلباً أو إيجاباً على حياة الطالب والمعلم والقائد وغيرهم ممن يشاركون في منظومة العمل المدرسي والتعليمي.
تعتبر المدرسة السعودية من أهم المؤسسات الاجتماعية في مجتمعنا؛ بحيث تقدم دور مهماً جداً في قضية التربية والتنشئة الاجتماعية، وتعتبر إحدى أهم المؤسسات الرسمية والضبطية، والتي تكون فيها التربية مُوجهة ومقصودة؛ بل مُخططاً لها منذ زمن؛ وذلك لأن الضبط الذي تقوم به المدرسة يتم تقديمه من خلال البُعد المعرفي والمقررات المدرسية، والبُعد التربوي الذي يهتم ببناء القيم التربوية لدى الطلاب والطالبات، والبعد التطبيقي السلوكي ذلك الذي تُنفّذ فيه الأنظمة والقوانين المدرسية بحيث يعيش الطالب والطالبة تجربة الانضباط الصفي والمدرسي على حدٍ سواء.
ومع هذه الأهمية فإننا نلحظ أن المدرسة السعودية، قد عانت من فقدان هذه الأهمية الضبطية؛ حيث إن الكثير من مخرجات هذه المدارس، التي يمثلها هؤلاء الطلبة؛ تعاني من حالات مختلفة من الانحرافات والجرائم والمكتسبات السلوكية غير السويّة، من أمثلة هذه السلوكيات -بل أبسطها- والتي أصبحنا معتادين عليها في الوسط التعليمي، بل في الإعلان عنها في برامج التواصل الاجتماعي، والمصادر الإعلامية؛ ظاهرة العنف المدرسي؛ بحيث إن حوادث العنف المدرسي لا تزال موجودة، وبالأخصّ في نهاية كل فصل دراسي، وتواكب فترة الاختبارات النهائية؛ وكأن هذا العنف يُمثل عُرفاً لتصفية الحسابات بين الطلبة؛ بل تشير التقارير التي تعدها الإدارة العامة للتوجيه والإرشاد بوزارة التعليم إلى أن أهم مظاهر العنف المدرسي جاءت بأشكال مختلفة؛ منها القضايا الأخلاقية؛ كالألفاظ البذيئة، والشتائم، والتحرش الجنسي، والاختطاف، وقضايا السرقة ومن أمثلتها السرقة بالقوة، واستخدام الابتزاز بين الطلاب والطالبات أيضاً، ولا يخفى علينا قضايا (المُضاربات) والاعتداء الجسدي؛ سواءً على قائد المدرسة، أو المعلمين، أو على الطلاب، واستخدام السلاح والأدوات الحادة والتهديد بها، والشروع في القتل، أو تدمير الممتلكات التي تخصّ المدرسة أو غيرها.. ولا يغيب عنّا قضية استخدام العنف والضرب بالعصيّ والسكاكين والآلات الحادة؛ حيث إن هذا المظهر الذي يأخذ طابع نسيج اجتماعي قَبَلي، يُعتبر هو المُثير الأول لمثل هذه الحوادث في بعض المدارس من بعض المدن، التي شهدت الكثير مثل هذه الحوادث في فترات سابقة!
وغيرها من السلوكيات التي قد يكون ضررها أقلّ بلا شك مما تمّ ذكره سابقاً؛ مثل عدم الالتزام بالأنظمة والتعليمات المدرسية، أو استخدام أسلوب الغش في الامتحانات بأشكال مختلفة، بالإضافة إلى ذلك حوادث الهروب من المدرسة!
كثيراً ما أتساءل عن حجم الجهود التي تبذلها وزارة التعليم في الحدّ من ذلك، وجهود المدرسة الموازية لها؛ ولكن أجد أن هناك خللاً في التطبيق؛ يؤدي إلى مثل هذه القضايا الانحرافية، وإلى وجود صدع كبير في قضية الضبط الاجتماعي الذي تمارسه المدرسة بوصفها إحدى أهم مؤسسات مجتمعنا التربوية.
المدرسة ليست مجتمعاً معرفياً فقط؛ لكنه مجتمع سلوكي يستطيع أن يهذّب سلوكيات أفراده من معلمين ومعلمات، وطلاب وطالبات؛ ولكن في حالة فهم هذه الوظيفة بشكلٍ مستمر، والعمل على تأديتها من خلال خلق نماذج القدوة في هذه المؤسسة، أو صناعة سُبل للحوار بين الطاقم التعليمي والإداري المدرسي وبين هؤلاء الطلبة، وإعطائهم نوعاً من الثقة المتبادلة؛ لأن ظروفهم ليست واحدة ومشكلاتهم متعددة، وقد تكون المدرسة في هذه الحالة قائمة بوظيفتين؛ وظيفتها كمؤسسة تعليمية وتربوية، ووظيفة الأسرة التي قد تغيب عن البعض بسبب المشكلات أو غيره من قضايا التفكك الأسري!
يُفترض من وزارة التعليم أن تهتم بهذه القضية وهذه الرسالة وهي الضبط الاجتماعي من خلال المدرسة، بتكوين فِرَق إرشادية قد تُساهم في حل مثل هذه المشكلات المتكررة كل عام، والنهوض بمستوى سلوكيات وقيم طلابنا وطالباتنا؛ لأن المُخرج السلوكي أظن بأنه يفوق أهمية المُخرج المعرفي؛ لأنك بهذه الحالة سوف تُساهم في إنتاج معرفة أساسها سلوك صحي ومجتمع حيوي قائم على الضبط لا الانحراف.
عندما تولى "بيل كلينتون" رئاسة أمريكا؛ تم الرفع له بقضية هامة على مستوى مدينة (نيويورك)، وهي قضية العنف السائد في هذه المدينة الصاخبة الناتج عن التزايد بتعدد العناصر والأعراق؛ فأمر بزيادة عدد المدارس فيها إلى نسبة 100%؛ لأنه يؤمن تماماً بأن المدرسة في المجتمع، تُغني عن مليون ضابط ومركز أمن وشرطة.