اعتدنا – مع كل واقعة – أن يطل علينا الأمين العامللأمم المتحدة السيد بان كي مون؛ ليعرب عن قلقه، حتى أصبحت مسألة الإعراب عن القلق ماركة مسجَّلة باسم السيد مون.
ولكن هذه المرة سنعرب نحن عن قلقنا إزاء تقرير السيد مون الذي قدمه لمجلس الأمن بعنوان "الأطفال والنزاع المسلح" عملاً بقرار مجلس الأمن 2225 (2015م)، والذي أدرج في القائمة المرفقة به التحالف بقيادة المملكة العربية السعودية ضمن الأطراف الضالعة في قتل وتشويه الأطفال، وفي الهجمات على المدارس والمستشفيات.
وبالرغم من الموقف الإيجابي الذي أبداه السيد مون بعد احتجاج السعودية على هذا التقرير، المتمثل في حذف التحالف بقيادة السعودية من القائمة المرفقة بالتقرير، وإعلانه إجراء تحقيق داخلي لكشف ملابسات القضية، إلا أنه من الواجب وضع هذا التقرير تحت المجهر، وبيان عدم موضوعيته، وتناقضاته؛ لكي يدرك القارئ الكريم أن احتجاج السعودية في مكانه، وأنه يمثل ردة فعل طبيعية لمن يُتَّهم بانتهاك القانون الدولي الإنساني وهو يجتهد في الالتزام به، وأن السعودية - أيضًا - ليست عرضة للعمليات الانتقائية والتسييس التي تمارَس في إطار الأممالمتحدة بشكل واسع.
وقبل النظر في فحوى التقرير، ومراجعة الأساس القانوني له، ينبغي الوقوف عند القائمتين المرفقتين للتقرير، اللتين تلقفتهما وسائل الإعلام، وأطلقت عليهما اسم "القائمة السوداء"، وكأن هناك – فعلاً – آلية بهذا الاسم، تدرج فيها الدول التي تنتهك القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان! في حين أنها مجرد قوائم مرفقة لتقارير الأمين العام، يقدمها لمجلس الأمن بشأن وضع الأطفال في النزاعات المسلحة؛ فهي وإن كانت تعمد لأسلوب محاولة إحراج الدول أمام الرأي العالمي، وتنهج طريقة التسمية والوصم Naming and Shaming ، إلا أنها ليست آلية معتمدة كالإجراءالسري السابق 1503، الذي تُدرج به الدول المنتهكة لحقوق الإنسان.. ولولا ورود اسم التحالف بقيادةالسعودية فيها لما أخذت هذا الزخم الإعلامي الذي لا أستبعد أن يكون مدبَّرًا من الأساس؛ إذ إن تقارير الأمين العام السابقة جميعها تضمنت هذه القوائم، إلا أنها لم تلقَ مثل هذا الرواج الإعلامي.
وفيما يتعلق بالأساس القانوني لهذه التقارير ومرفقاتها فهي تستند إلى قرارات صادرة من مجلس الأمن منذ عام1999م، تطلب إلى الأمين العام تقديم تقارير سنوية عنأوضاع الأطفال في النزاعات المسلحة. والمتتبع لهذه القرارات سيلاحظ أنها في كل مرة تتسع لتشتمل على أحكام جديدة، كتكليف الأمين العام بإدراج قائمتين تضمان أطراف النزاع الضالعة في انتهاك طائفة من حقوق الأطفال المدرجة على جدول أعمال المجلس وغير المدرجة، بموجب قرار مجلس الأمن 1379 (2001م). كما اتسعت الأحكام لتشمل طائفة من الانتهاكات؛ ففي البداية كانت تنص على إدراج أطراف النزاع الضالعة في تجنيد الأطفال، ثم تطورت لتشمل طائفة واسعة من انتهاكات حقوق الأطفال المباشرة كالاعتداء الجنسي عليهم وقتلهم، وغير المباشرة كتدمير المستشفيات والمدارس.
وهذه الأحكام المتعلقة بوضع مثل هذه القوائم قد لا تجد لها مستندًا قانونيًّا صريحًا في ميثاق الأمم المتحدة واتفاقيات حقوق الإنسان وغيرها من مصادر القانون الدولي. وأكاد أجزم بأنها لم تكن لتصدر لو تمت مناقشتها في إطار الجمعية العامة وأجهزة الأمم المتحدة الأخرى التي لا تمييز فيها بين الدول، بعكس مجلس الأمن الذي تحظى فيه الدول دائمة العضوية بحق النقض (VETO)وما يصحبه من تأثير على مواقف الدول الأخرى.
والإشكال هنا ليس في الهدف المعلن لمثل هذه الإجراءات التي تعزز وتحمي حقوق الأطفال في مناطق النزاعات المسلحة، بل هذا هو مطلبنا جميعًا، وإنما يكمن في تكريس الانتقائية والتسييس عند التعاطي مع حالات حقوق الإنسان من خلال هذه القوائم؛ والدليل الماثل أمامنا إدراج التحالف في القائمة المرفقة بتقرير السيد مون،بوصفه طرفًا ضالعًا في انتهاكات طائفة من حقوق الأطفال، رغم التزام قوات التحالف بمبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بالحرب، والقانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وتعاونها الأمثل مع المنظمات والوكالات الدولية والإقليمية ذات الصلة.
وبالنسبة لموضوعية التقرير، فمَن يطلع عليه سيحكم بعدم موضوعيته، وانتهاجه الانتقائية، عندما يستعرض أطرافالنزاع في عدد من البلدان، ولا يجد أسماء دول ضالعة على الأقل في تدمير مستشفيات، ومدارس، وأعيان مدنية..
ففي بند أطراف النزاع في أفغانستان لم يدرج التقرير الولايات المتحدة التي دمرت مستشفى، وأعلنت أنه كان خطأ!
وفي بند أطراف النزاع في سوريا لم تتضمن القائمة روسيا التي أكدت مئات التقارير الصادرة عن المنظمات الدولية تورُّطها في تدمير أعيان مدنية ومستشفيات ومدارس. وكذلك لم تتضمن القوائم إيران الضالعة بأبشع انتهاكات حقوق الإنسان، بما فيها قتل الأطفال والاعتداء الجنسي عليهم، وتجنيدهم، في العراق، وسوريا، واليمن، ولبنان!
والعجيب أن التقرير تضمن في فقرته الـ(154) الإشارة إلىقتل (591) طفلاً، وإصابة (555) طفلاً في سوريا، عزيت (585) منها إلى القوات الحكومية، والقوات الدولية الداعمة للحكومة، ولم يتم إدراجها في القائمة، فضلاً عن أنه تم الاكتفاء بذكر القوات الدولية دون ذكر دول بأسمائها في ثنايا التقرير!
والأعجب من ذلك كله أن التقرير تضمن بندًا بعنوان(إسرائيل ودولة فلسطين)، اشتمل على العديد من الانتهاكات الصارخة التي ارتكبتها سلطة الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنون الإسرائيليون بحق الأطفالالفلسطينيين، وكذلك الإشارة إلى قيام الفلسطينيين بارتكاب انتهاكات لحقوق الأطفال الإسرائيليين، إلا أن القائمة خلت من هذا البند بشكل مطلق، في مخالفة صريحة للمنهجية المتبعة للتقرير.
كما أن التقرير أشار في فقرته الـ(172) إلى أنه تم التحقق من (51) حادثة تتعلق باستخدام المدارس لأغراض عسكرية، معظمها من قِبل الحوثيين. ومن المعلوم أن قواعد القانون الدولي الإنساني تجيز ضربها في هذه الحالة باعتبارها خرجت من حيز الأعيان المشمولة بالحماية.
وختامًا، فإن موقف السعودية الذي أبدته من هذا التقرير، واستجابة الأمين العام العاجلة، يمثلان فرصة ثمينة لدفع المجتمع الدولي نحو إصلاح أجهزة وآليات الأمم المتحدة، بما فيها مجلس الأمن.