تساءل مرة الدكتور مصطفى محمود في كتابه (لغز الموت) قائلاً: "لماذا يسقط الموت من حساباتنا دائمًا؟"، ثم عرج على التفكر في رحلة الحياة القصيرة التي يقطعها الإنسان، والضجة التي يُحدثها كأنه خالدٌ فيها.
وفي الحقيقة، إنني كنت في كل مرة أحاول الإجابة، ويمنعني السبب نفسه الذي يجعلنا دائمًا نُسقط الموت من حساباتنا. إنه اشتغالنا وانشغالنا باللحظة الراهنة؛ فليس لدينا وقتٌ حتى للتفكير في السبب؛ لأن رؤيتنا للموت أنه أمر حتمي، وأن التفكير فيه مضيعة للوقت، ومجلبة للضيق والحزن.. إنه تفكير في اللاجدوي، ولحظة تأمل فارغة، سؤال يبدو عليه أنه تحصيل حاصل لحقيقة بدهية، ستطول كل الرقاب، وتقضي على كل الرغائب.. إنهم يعتبرون (تأمل فلسفة الموت) علمًا جليلاً، تستوي فيه مع الجهل العريض. وهذه رؤية وجودية ضيقة، تعمق أزمة الموت أكثر مما تهيئ أسباب النجاة.
والواقع أن أسلوب الحياة الذي نعيشه لا يدع لأحد فرصة للإجابة؛ لأنه يناقض هدفها، ويهدم أسلوبها الذي تغري به، وتقود به إلى العدم دون أن يشعر أحد. إنها تراوغ، وتلهي حتى عن التفكير في الإجابة؛ لأن مجرد التفكير في السؤال يوقف العجلة التي تطحننا يوميًّا، وتصيبنا بالدوار.. ومن يستطع أن يصل إلى جواب مقنع فقد بلغ مرحلة توازن، تهديه إلى سواء الصراط.
إن الحياة تلقي بقبضتها الحديدية على كل الأيدي، وترسف بأغلالها على كل الأقدام، وتجثم بثقلها على كل الأجساد، بعد أن ألهت التفكير بتوافهها؛ فلا انفكاك من قبضتها بنفس القوة والجبروت.
إنها تحتاج إلى انسلال روحي متخفٍّ من إغرائها الشهواني.
يجب أن تحول النزوة إلى نزعة، والرغبة إلى رهبة، والتحلية إلى تخلية.. إننا نحتاج إلى قفزة ذهنية، إلى حال من طواه الدهر، إلى معلقة جاهلية، تعلمنا أن (أرى العيش كنزًا ناقصًا كل ليلة** وما تنقص الأيام والدهر ينفد).
إلى تذكير رباني، يخبرنا يقينًا بالحقيقتين، ثنائية الموت والحياة، أن {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}.. إلى تذكر بدايات الجهل والانشطار، ونهايات الضعف والاندثار..
إن الإجابة عن تساؤل الدكتور مصطفى محمود التعجبي يستجر معه العديد من الأفكار والمواقف، ربما تكون فكرة إفراغ الذهن ساعتَيْن يوميًّا من المشاغل واللهاث طريقة مجدية؛ ليبدأ العقل فيها التخلص من شوائب الخصب الفكري ومشتتات الأفكار، ودخول مرحلة التجلي الفكري.
قد تكون الإشكالية الحقيقية في القدرة على اقتناص هاتين الساعتين؛ فهذا وقت طويل في عصر المعلومة المسلوقة، والمعرفة المبتسرة، ولاسيما للذين يرون إنفاق إضعاف هذا الوقت في الدردشة الاجتماعية، والأحاديث الجانبية، وهواة جمع المال والثروة.. لكنه وقت قصير لأولئك الذين يبنون عليه بقية أعمارهم، لأولئك الذين يستوقفهم الناس في الشارع؛ ليحدثوهم فيردون عليهم بلطف: "امسك الشمس".
والذين رزقهم الله توقدًا وذكاء توقفوا في منتصف الطريق، ثم نظروا إلى ما قدموا، وسبروا غمار أنفسهم ونواياهم، ثم قلبوا حياتهم وتاريخ البشرية نعيمًا وفكرًا.. وحينما يتأمل المرء مقدمة كتاب (المنقذ من الضلال) لأبي حامد الغزالي يدرك أن هذا التحوُّل العظيم أنتجته لحظة عظيمة فارقة، امتزجت بنفس مشرقة؛ لأنه ليس هينًا أن يعتزل المرء مجتمعه وهو على رأسهم إفتاء وتدريسًا وذيوعًا، ثم يتحول إلى التنسك الخفي، والإعراض عن الملذات، والكتابة الربانية.
إن الحكيم يدرك أن الحياة هذه لا تعاش بالإقبال الجارف عليها، ولا بالإدبار المطلق عنها؛ لأن منطق الأشياء الخفي يقول إن التلهف على الأشياء هو أول مسمار في نعشها. إن العلاج قد وصفه لنا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في تربيته لحنظلة، حين ظن - رضي الله عنه - بعدم موازنته بين الانغماس في الدنيا والإقبال على الآخرة أنه منافق، فقال له المصطفى ثلاثًا "يا حنظلة.. ساعة وساعة".