"الجنادرية" تحكي القصة .. هذان هما الرجلان "الأشقران" اللذان حفرا قبر الرسول لسرقته

ركن "الحرم النبوي" شدد على ضرورة تصحيح الرواية بالأسانيد التاريخية
"الجنادرية" تحكي القصة .. هذان هما الرجلان "الأشقران" اللذان حفرا قبر الرسول لسرقته
تم النشر في

تصوير - عبدالله النحيط : حقق جناح الرئاسة العامة لشؤون الحرمين الشريفين الهدف الأسمى من مشاركته في "جنادرية 31" وهو تثقيف الجمهور حول كل ما يتعلق بالحرم المكي والحرم النبوي الشريف ، ومن ذلك ما يضمه ركن الحرم المدني من تفاصيل مثيرة حول القصة الشهيرة المختلقة على الحاكم الزنكي "نور الدين محمود بن زَنْكي" إبان حربه على الصليبيين، عندما ذكر المؤرخون أنه شاهد في المنام شخصين يحفران قبر النبي صلى الله عليه وسلم لسرقته.

وهنا يكشف مدير معرض الحرمين بالمسجد النبوي فايز بن علي الفايز، لـ"سبق" صحة الحادثة.

ويقول "الفايز" : من هذه الأحداث التي اتخذت منحى مزعجًا ، ما يُروى من أن نور الدين محمود بن زَنْكي الذي توفي عام 569 هـ ، رأى فيما يرى النائم النبيَّ صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات في ليلة واحدة، وهو يقول له: يا محمود، أنقذني من هذين الشخصين الأشقرين.

 ويشير إلى شخصين تجاهه، فينتبه نورُ الدين من منامه، ويخبر وزيره بذلك، فيقول له الوزير: هذا أمرٌ حَدَثَ في مدينة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليس له غيرك، فيتجهز نور الدين على عجل،  ويخرج مع ألف راحلة وما يتبعها من خيل وغير ذلك، حتى يأتي المدينة، فيدخلها مع وزيره على غفلةٍ من أهلها، فيجلس في المسجد النبوي لا يدري ما يصنع.

وأضاف "الفايز" ، قالت الرواية التاريخية المختلقة إن وزيره قال له في هذه الأثناء: أتعرف الشخصين إذا رأيتهما؟ قال: نعم. فيطلب الناسَ عامة ليعطيهم الصدقة، ويفرِّق عليهم ذهبًا كثيرًا وفِضَّة، ويقول: لا يبقِين أحدٌ بالمدينة إلا جاء.

فيجيء أهل المدينة كلُّهم، لم يتخلف عنهم إلا رجلان مجاوران من أهل الأندلس، نازلان في الناحية التي تلي قبلة حجرة النبي صلى الله عليه وسلم من خارج المسجد، فطلبهما نور الدين للصَّدَقَة، فامتنعا، وقالا: نحن في كفاية، ما نقبل شيئًا. فألحَّ في طلبهما، فجيء بهما، فلما وقعت عينه عليهما عرفهما.

وقال للوزير: هما هذان، فسألهما عن حالهما وما جاء بهما؟ فقالا: جئنا من أجل مجاورة النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: أصدقاني الحديث، وتكرَّر السؤال حتى أفضى إلى معاقبتهما، فأقرَّا أنهما مع الفرنجة، وأنهما وصلا لكي ينقلا الجسد الشريف من الحجرة النبوية باتفاق مع ملوكهم على ذلك، ووجدهما قد حفرا نَقْبًا تحت الأرض باتجاه الحجرة الشريفة، وكانا يهيلان التراب المتخلف عن الحفر في بئر البيت الذي يقيمان فيه،  فأمر في الحال بضرب أعناقهما، ثم أحرقا بالنار.

وتابع "الفايز" ، إذا استعرضنا المصادر نراها تحيلنا في أغلبها على مصدر واحد استقت منه هذا الخبر، وهو كتاب "التعريف بما أَنْسَتِ الهجرة من معالم دار الهجرة"، ألّفه أحد مؤذني المسجد النبوي هو محمد بن أحمد المَطَرِي، المتوفَّى سنة (741هـ)، وهذا يجعلنا نرجِّح أنه أول مصدر ذكر هذه القصة، ومن الدلائل التي تؤكد عدم صحة الرواية أن بين وفاة "المطري" ووفاة نور الدين 172 سنة !!. متسائلاً : أين المعاصرون لنور الدين من هذه القصة؟.

وأشار إلى أَنَّ "المَطَريَّ" يصرِّح بمن سمع منه هذه القصة، فيقول: سمعتُها من الفقيه علم الدين يعقوب بن أبي بكر المحترق أبوه من العاملين في المسجد النبوي ليلة الحريق حريق المسجد، عمن حدَّثه من أكابر من أدرك.

ويعرِّفنا كذلك على راويها في موضع آخر من كتابه، فيقول: يعقوب بن أبي بكر بن أوحد، طالب علم من أولاد المجاورين بالمدينة، كان أبوه أبو بكر "فَرَّاشًا" من قوَّام المسجد الشريف، وهو الذي كان حريق المسجد الشريف على يديه، فاحترق وهو في حاصل المسجد سنة 654هـ.

وكشف فايز الفايز أن من أتى بعد "المطري" أخذ القصة ورواها نافيًا عنها أي ظل من الشك، بل زاد فيها بعض العبارات التي أكسبتها قوة اليقين، فالشك الذي لوَّح به المطري بقوله: هكذا حدثني عمن حدثه، تختفي عند من يأتي بعده، وقوله في إسنادها: عمن حدثه من أكابر من أدرك، تصبح عند بعضهم: عن مشايخ المدينة وعلمائها، بل إنهم - وقد ثبتت عندهم هذه القصة - يختلفون في تعيين الوزير الذي كان مع نور الدين: أهو جمال الدين الأصفهاني، أم الموفَّق القَيْسراني؟ بل يأخذ الأمر مداه حين يغيب التاريخ تمامًا، لتصبح الواقعة ضربًا من كرامات نور الدين، ودليلاً على ولايته.

مؤرخون عززوا الشائعة
وتتبعت "سبق" ما كتب عن القصة ، واتضح أن هناك مؤرخين عززوا الشائعة ، ومنهم جمال الدين الإسنوي، المتوفَّى سنة (772هـ)، الذي يسوقها دون إسناد - وينقلها عنه السمهودي - مضيفًا إلى القصة عناصر جديدة، فهو يجعل نور الدين بعد قتله الرجلين يحفر خندقًا حول الحجرة الشريفة، ويملؤه بالرَّصاص المُذاب ، كما انشغل بهذه القصة كل من أتى بعد "المطري" من المؤرخين، كالزين المراغي في "تحقيق النصرة" ص 146-147، وابن قاضي شهبة في "الدر الثمين في سيرة نور الدين" ص 72-73، والسمهودي في "وفاء الوفا" 2/650-651، وابن العماد في "شذرات الذهب" 4/230-231، والبرزنجي في "نزهة الناظرين" ص 83-84.

مؤرخون عاصروا "نور الدين"
العجيب أن القصة المختلقة لم يذكرها كلُّ من أرَّخ لنور الدين ممن عاصره أو جاء بعده، فلم يذكرها الحافظ ابن عساكر مؤرِّخ دمشق، وهو الذي كان معجبًا بنور الدين غاية الإعجاب، وإليه قدَّم تاريخه الكبير، وكذلك لم يذكرها العماد الكاتب وهو الذي لازم نور الدين ملازمة تامة، فقد كان كاتبه ورئيس ديوان الإنشاء عنده، وقد ألَّف كتابًا في أخباره سماه "البرق الشامي"، وكذلك لم يذكرها ابن منقذ في كتابه "الاعتبار" وهو الذي كان يتتبَّع فيما يكتب كل خبر طريف، وعاش بعد نور الدين نحو خمس عشرة سنة، بل لم يتناولها من أفرد لنور الدين كتابًا في سيرته، أو قسمًا كبيرًا من كتابه، كابن الأثير في كتابه "الباهر"، وهو الذي لا يخفي إعجابه بآل زَنْكي، وخصوصًا نور الدين، وكأبي شامة في كتابه "الروضتين"، وهو الحريص على تدوين كل منقبة له.

وهذا يعني أن القصة لم تكن معروفة في بلاد الشام - معقل نور الدين - حتى منتصف القرن السَّابع الهجري، أي في سنة (649هـ) وهي السنة التي فرغ فيها أبو شامة من تصنيف كتابه "الروضتين"، ولو كانت معروفة لربما ذكرها ونقدها، وإن كانت بدأت تشيع في تلك السنين نفسها في المدينة المنورة بين العامة، إذ إن يعقوب الذي سمع منه المطري ولد قبل سنة (654هـ) - وهي سنة وفاة والده كما سلف - وسمعها هو من أكابر من أدرك، يعني ممن عاش في منتصف القرن السَّابع.

وقد ظلت غير معروفة في بلاد الشام حتى زمن المطري نفسه، وهو منتصف القرن الثامن، إذ لم يشر إليها مؤرخ ذلك القرن الإمام الذهبي في كتابيه "سير أعلام النبلاء" و"تاريخ الإسلام"، وقد توفي بعد المطري بنحو سبع سنوات، وذلك سنة (748هـ)، بل لم يذكرها من تصدَّى لتاريخ المدينة، وهو ابن النجار المتوفى سنة (647هـ) في كتابه القيم "الدرة الثمينة في تاريخ المدينة".

"الزنكي" لم يزر المدينة
ووفقًا لمقالة نشرت في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، المجلد السابع والثمانون، الجزء الثاني، جمادى الآخرة 1433هـ/ نيسان 2012م. فإن هذا الإغفال لها من مؤرِّخين كبار يلقي بظلال من الشك على القصة، يزيده قوة أن "نور الدين الزنكي" لم يزر المدينة في السنة التي ذكر "المطري" أن القصة وقعت فيها، وهي سنة (557هـ)، بل إن نور الدين لم يزر المدينة في أيٍّ من سنين حكمه التي امتدَّت ما يقرب من ثلاثين عامًا، بل إنه لم يحجَّ أبدًا، فقد شغله جهاد الفرنج عن الحج .

 ثم إن في القصة اضطرابًا في متنها ونكارة، ولم يُعرف كيف لم يتنبَّه له من رواها، فـ"المطري" يقول: إن نور الدين تجهز على عجلٍ، وخرج ومعه ألف راحلة، وما يتبعها من خيل وغير ذلك، وهو عددٌ غير قليل لا بد أن يُحدث عند دخوله المدينة جلبة واهتمامًا، ومع ذلك يقول: إنه دخل المدينة على غفلة من أهلها!.

وأيضًا من أساطير القصة أن الحاكم "نور الدين" يجلس في المسجد في المدينة وكأنه عابر سبيل، وهو سلطان الشام وقتئذٍ، لا يدري به حتى أمير المدينة! ، ويطلب أهل المدينة كلهم للصدقة، وكأنهم كلهم يستحقونها، ويحرق الرجلين بعد قتلهما، وهو عقابٌ منهيٌّ عنه شرعاً!.

وكأن "الإسنوي" في روايته حاول أن يخفف من بعض اضطرابها فذكر أن نور الدين خرج في رواحل خفيفة، في عشرين نفرًا، وجعل التراب المتخلف عن الحفر، بدل أن يلقى في بئر البيت، يُذْهب به، فَيُلْقى بين القبور في البقيع.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org