منذ لاحت تباشير الخير، وامتلأ الفضاء بياضًا، طال غيابه، واستحالت زرقة السماء لألوان بديعة، واعتمرت مدننا طوق السحاب المبهر، وتتابع هطل المطر اللذيذ.. بدت النفوس المبتهجة في انتظار فرحها الثاني، وتعلقت الأعين بوسائل التواصل الاجتماعي وحسابات التعليم الرسمية في انتظار الذي لا يأتي كثيرًا!
(تعليق الدراسة).. هذا المطلب الذي يترافق كثيرًا مع ضرورات السلامة للطلاب والطالبات؛ فما أكثر ما تربك قطرات المطر شوارعنا غير المهيأة لامتصاص وتصريف مياه الأمطار، مع وجود الحفر والبثور والحواجز والندوب في طرقاتنا؛ الأمر الذي يتطلب القيادة باحترافية عالية جدًّا، ومهارة كبيرة، لا تتأتى لسائقين أجانب في الأغلب، تعلم معظمهم القيادة في شوارعنا المسكينة. كما أن خطر الخروج ليس أثناء نزول المطر والصواعق فقط، بل بعده بساعات، أو حتى أيام، حين تتجمع المياه في الأنفاق (والكباري) وأمام المدارس والمباني! وغدا قرار تعليق الدراسة متناقلاً بين وزير التعليم ومديري التعليم بالمناطق والمحافظات، ثم انتقل للأهل بشجاعة بالغة!
في الأيام الفائتة سهر معظم المواطنين في انتظار وحيرة وتساؤل، يبحثون عن إجابته بالكثير من الشغف واللهفة! بين تعليق الدراسة أو عدم تعليقها! وبين شائعات الإجازة ونفيها.. وبقي القرار معلقًا بين النفي والإثبات.. وكان لا بد من البت في أيهما بوقت مبكر، حتى قرر الكثير منهم إصدار أوامر التعليق من تلقاء أنفسهم حرصًا على سلامة أبنائهم، خاصة أن مدير تعليم الرياض (مثلاً) في تغريدة متأخرة رأى ألا ضرورة لتعليق الدراسة؛ فلم يردهم تحذير رسمي! (رغم سلسلة التحذيرات الرسمية من الدفاع المدني ومصلحة الأرصاد!)؛ ليبرز سؤال بحجم الدهشة: من الذي يجب أن يحدد درجة الخطر، ومن ثم يعلن تعليق الدراسة تبعًا لتوقعاته وقياسات درجات الخطر (علميًّا) لديه، وليس قناعات مسؤولين عن يوم دراسي سيفوت فحسب؟ وبالتالي مَن يتحمل الخطر الذي قد يقع لأبنائنا خاصة الصغار منهم؟ أو للمعلمين والمعلمات الذين يقطعون مسافات طويلة، ويتعرضون لأخطار عديدة منذ فجر اليوم حتى مغربه، ثم لا يجدون طلابًا في مدارسهم؟ سمعنا ونسمع الكثير من الحوادث - وقانا الله تعالى وإياكم شرها - في الأيام المطيرة والضبابية والعواصف الرملية أيضًا.. وهو (أي التعليق) ليس بدعة ابتدعناها، بل شأن الدول كلها حين يغلبون سلامة أبنائهم.
في المقابل، يحمل المسؤول أمانة سير العملية التعليمية، وعدم إرباكها بغيابات متكررة، قد لا يكون الخطر فيها حقيقيًّا، خاصة حين يحدث الغياب، لكن يصبح اليوم عاديًا وآمنًا!! هناك من يرى أن احتمالية الخطأ في تقدير الخطر واردة جدًّا، لكنها تصبح أقل أثرًا حين يقع الخطأ فعلاً، ولات ساعة مندم! كما أن الوصول لمدارس تتباعد المسافات بينها لأكثر من ابن وابنة، مع عمل الأب والأم والزحمة المتوقعة في الشوارع التي ستتضاعف حتمًا في الأيام المطيرة، سيحتاج للكثير من الوقت والأعصاب والصبر الذي يفلت عادة! والذي يدعم الإجازة قرار وزير التعليم بضرورة التعويض؛ وربما ذلك سيخفف من حجم الأسابيع الميتة التي تسبق الإجازات في العادة!
أما الذين يستغلون الإجازة للخروج للنزهات فهم يتحملون مسؤولية أنفسهم، ولا ينبغي أن يُحمل تهورهم على محمل الجد.
ويبقى السؤال معلقًا في ليالي الشتاء القليلة القادمة: من يحسم أمر تعليق الدراسة؟ الدفاع المدني ومصلحة الأرصاد أم وزارة التعليم ومديرو التعليم؟ ولا تلوموا فرحتنا ونحن أبناء صحراء قليلة المطر، لكنها فاتنة حين يجيء.