استقبل رئيس جمهورية باكستان الإسلامية ممنون حسين اليوم الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي عضو هيئة كبار العلماء، الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى، في القصر الرئاسي في إسلام أباد.
ورحب الرئيس الباكستاني بالأمين العام لرابطة العالم الإسلامي وبالوفد المرافق له في زيارتهم لبلاده، مشيدًا بالجهود الكبيرة التي تبذلها الرابطة لنشر الاعتدال والوسطية من خلال مناشطها الدولية.
كما أشاد بنجاح المؤتمر الدولي "الخطاب الوسطي والأمن المجتمعي"، الذي نظمته رابطة العالم الإسلامي في العاصمة إسلام أباد، مثمنًا للرابطة مبادرتها، ومؤكدًا دورها في مواجهة الفكر المتطرف، وداعيًا إلى أن يترجم ذلك على أرض الواقع بما يؤثر عمليًّا على دحر التطرف والإرهاب.
من جهته، شكر الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الرئيس الباكستاني على حسن استقباله وما لقيه الوفد من حفاوة وتكريم، وعلى رعاية فخامته للمؤتمر الذي نظمته الرابطة، مؤكدًا استعداد الرابطة للتعاون مع علماء ومفكري باكستان في تنظيم المؤتمرات والندوات، وتكثيف الجهود للتصدي للأفكار المنحرفة والتطرف والغلو، ووضع برامج عملية في هذا المطلب.
وأشار إلى أن رابطة العالم الإسلامي، ومن خلال مجالسها وهيئتها ومكاتبها ومراكزها الإسلامية المنتشرة في أنحاء العالم، تضع توعية المسلمين وتثقيفهم بالدين الإسلامي الصحيح في عباداتهم وتعاملاتهم وفق الكتاب والسنة بعيدًا عن الغلو والتطرف والطائفية على رأس أولوياتها.
وقدم الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي هدية تذكارية لرئيس جمهورية باكستان الإسلامية.
وكان المؤتمر الدولي "الخطاب الوسطي والأمن المجتمعي"، الذي نظمته رابطة العالم الإسلامي، قد انطلق الأحد برعاية الرئيس الباكستاني، وحضور وزير الشؤون الإسلامية والتسامح الديني الباكستاني السيد سردار محمد يوسف، والشيخ ساجد مير المشرف العام على جمعية أهل الحديث المركزية بباكستان، وسفير خادم الحرمين الشريفين لدى إسلام أباد عبدالله بن مرزوق الزهراني، وجمع من العلماء والمفكرين وأعضاء السلك الدبلوماسي في إسلام أباد.
وعبَّر الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي في كلمته في حفل الافتتاح عن سعادته بهذا اللقاء العلمائي والدعوي، وبرعاية الرئيس الباكستاني؛ ليساهم في ترشيد الخطاب الإسلامي، ويصب في مصلحته التي تمثل مصلحة الإسلام وأهله والإنسانية أجمع، مؤكدًا "حاجة الجميع للقيم العالية التي تمثل سمة الإسلام الحق، مكونة خطابًا ساميًّا بسمو مصدره، يتسم بالوسطية والتوازن في محاكماته، وتحري الصدق والحقيقة في مادته، والجمالية في روحه وأسلوبه، والترفع عن التجريح والحدة في تناولاته، والارتقاء بالجميع وعيًا وسلوكًا في أهدافه ورسالته، ولاسيما فيما يتعلق بسلامة المنهج والفكر الذي يحفظ لنا هويتنا الإسلامية بنقائها، باسطًا خيره على الإنسانية أجمع".
وأضاف: "إن الوسطية صفة لازمة في الأمة الإسلامية، تترجم منهاج دينها الحنيف؛ قال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا} [البقرة/ 143]. وقال سبحانه: {وأنَّ هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرَّق بكم عن سبيله} [الأنعام/ 153]. وقال: {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا} [الأنعام/ 161]".
ولفت إلى أن من صميم الوسطية التي تتسم بها الشريعة الإسلامية الخاتمة التيسير ورفع الحرج والضيق الذي كان في بعض الشرائع السابقة عقوبة لأصحابها {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [الأعراف/ 157]، {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج/ 78]. وفي الحديث: "إني أُرسلت بحنيفية سمحة"، وفي آخر: "يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا"، وفي ثالث: "إن الدين يُسر، ولن يشاد الدينَ أحدٌ إلا غلبه"، وقال: "هلك المتنطعون" ثلاث مرات، وقال: "إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين".
وزاد الدكتور محمد العيسى: إن الإسلام رسالة عالمية خالدة، تستبطن دواعي القبول وقابلية الانتشار؛ فهو رسالة رحمة: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء/ 107]. وشريعته مُحكمة المبنى، معقولة المعنى، فطرية الأساس، جارية على مقتضى مصالح الناس.
وقال إن علماء الإسلام قد أبرزوا عبر العصور الوسطية كمبدأ ثابت ومنهاج أصيل في مختلف مناحي الثقافة الإسلامية وفروعها، سواء على مستوى التصورات والمفاهيم، أو على مستوى السلوك والتطبيق، وفي الأصول والفروع، في العقيدة والعمل. مضيفًا بأنهم بإبرازهم معالم المنهاج الوسطي اتضحت المحكمات، وانكشف دخيل الأفكار والأوهام والمغالطات، واستبان سبيل المتنطعين الغالين، ودحضت حججهم.
وأفاد بأن وسطية الإسلام تعبّر عن المرونة التي يتمتع بها في تناول الأمور، وسياسة الخلق، والتجاوب مع تغيرات الواقع ومجرياته في إطار الأصول العقدية والثوابت التشريعية، وضمن وحدة الأمة الفكرية والسياسية، واستقلاليتها الحضارية، وأن هذا لا يؤثر على ما قررناه من أن الوسطية أصل ثابت لا يتغير في الخطاب الإسلامي؛ فالمرونة هنا مرونة أداة، ومرونة تنوُّع بحسب المتلقي.
وأكد أن رابطة العالم الإسلامي في مختلف مناسباتها تؤكد أهمية تضافر جهود حَمَلة العلم، وقادة الدعوة والإصلاح، ومؤسسات التعليم والإعلام، في ترسيخ وسطية الإسلام في الوعي العام، والتصدي للمتحكمين المتعالمين، الذين يسارعون في التكفير والتضليل، والطعن في العلماء، وتزيين الخروج على الحكام، مستغلين في الشباب ضَعْف صلتهم بالعلم والعلماء، وقلة زادهم من الثقافة الدينية، وسهولة اصطيادهم عبر الشبكة الرقمية للمعلومات والاتصال.
وحذَّر أمين رابطة العالم الإسلامي خلال كلمته من التطرف الفكري، وما أفرزه من تنظيمات تمارس العنف والإرهاب باسم الدين وتحت شعاره، مبينًا أن التطرف الفكري ظاهرة تمددية، ألقت بظلالها القاتمة على المجتمعات المسلمة؛ فأرهقتها، وأرقتها بفتن وصراع مرير، وزعزعة الأمن وإنهاك الاقتصاد، والتأثير السلبي على العلاقات الاجتماعية، كما أضعفت الصلة بالمرجعية الإسلامية، وجرأت الأغرار والجهلة على العلماء والمفتين، ولمعت أسماء لا حظ لها من العلم إلا ضحالة الفهم والدعاوى الجوفاء.
ودعا الشيخ الدكتور العيسى للتصدي لظاهرة التطرف الفكري عبر الإحاطة بها من جوانبها، ودراستها في أبعادها الفكرية والنفسية والاجتماعية، وتحليل أسبابها، ورصد آثارها المختلفة.. ومن تلك الحصيلة الشاملة تستخلص سبل علاجها.
وأكدد أن الأمن ضرورة من ضرورات الحياة الفردية والاجتماعية، وله مقومات ومقتضيات، بها يقوم ويستقر ويستمر، من أهمها إقامة العدل من غير تمييز ولا محاباة، والحزم في صيانة حقوق الناس، والتصدي للجريمة وظواهر التسيب والفساد، وانتهاك الحرمات والمقدسات، والتطاول على القيم الدينية والاجتماعية بذرائع الحرية وحقوق الإنسان.
وأكد ضرورة أن يتناسق ذلك ويتكامل مع الاضطلاع بمهمة التوعية والتثقيف الاجتماعي بقداسة العدالة والحقوق، والكرامة الإنسانية، وأهمية العلاقات الاجتماعية الإيجابية التي جلاها الإسلام في التناصح، وتأكيد حق الجماعة، والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذا التثقيف باحترام النظام العام، والانصياع للنظام العام.
وشدد العيسى على أن التطرف الإرهابي سلوك عدواني يستهدف الإخلال بالأمن، وتقويض أركان الاستقرار، وأنه بذلك يتناقض مع أحكام الشريعة ومقاصدها.
وأكد معاليه أن الرابطة تؤكد في مناسباتها المختلفة تنسيق الجهود الإسلامية، كل حسب موقعه وقدراته واختصاصه، لإيجاد قاعدة للعمل المشترك في صد هذه الظاهرة الشاذة المرعبة المحدقة بالجميع. لافتًا النظر إلى أن التهديد الذي تشكله لا يقتصر على الجوانب المادية من حياة الناس، بل يمتد إلى الجوانب الفكرية، وذلك أخطر وأمرّ؛ إذ لو تمكنت الجماعات التي تتبنى المناهج الإرهابية من مقاليد الأمور فإنهم حتمًا سيسعون لقلب معادلة الإسلام تزويرًا وتشويهًا، وهو ما لم يكن لهم - بحمد الله – سابقًا، ولن يكون لهم - بإذن الله – لاحقًا، وإنما هي في جملة سنة الله تعالى في خلقه عواصف عارضة، تصول بعنفوان طيشها وجهلها، ثم تذهب كأن لم تكن.
وقال إنه من هذا المنطلق فإن الرابطة بادرت إلى الترحيب بالتحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب بقيادة المملكة العربية السعودية، وتم إعلانه في ربيع الأول من العام الماضي (ديسمبر 2015م)، باعتباره إطارًا للعمل المشترك على مستوى الدول الإسلامية، مع الترحيب به من قِبل دول داعمة من غير الدول الإسلامية؛ ما يؤكد الحفاوة العالمية بهذا التوجه الإسلامي الرشيد، وأعلنت الرابطة استعدادها للتعاون مع هذا التحالف؛ لكونه لا يقتصر على الجهود العسكرية، بل وسّع دائرة عمله؛ لتشمل الجوانب الفكرية والإعلامية.
وفي السياق ذاته، أضاف الدكتور العيسى بأن الرابطة أشادت بمركز الحرب الفكرية بوزارة الدفاع في المملكة العربية السعودية، وعقدت عزمها على التعاون معه؛ لكونه منبرًا مهمًّا للعمل الإسلامي في المجال الفكري، يتجلى فيه وجه من الشمولية والعالمية التي تعالج بها السعودية هذه الآفة.
وتابع: الرابطة أكدت أهمية أن يخرج الخطاب الإسلامي بالصورة المثلى اللائقة به، وأن يتجاوز سلبياته في بعض أطروحاته؛ إذ لا بد أن يهدف إلى المعالجة لا المواجهة، وألا ينجر إلى تشخيص الخلاف، وأن يقتصر على المرض لا المريض، والفعل لا الفاعل، حذرًا من لغة العداء والكراهية، وأن يدرك أن الاختلاف والتنوع والتعددية سُنة كونية، وأن مصادمتها خسارة مزدوجة؛ فلا هي بذات عائد إيجابي على وصف العالم أو الداعية، ولا هي في عمومها مسلك حسن في تبصير الناس، وقد قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة". والتنوع والاختلاف ينشآن غالبًا عن ضعف المتلقي، فإذا قوبل بردة فعل سلبية عاد بنتائج غير محمودة، لكن مع الإيمان بهذه السُّنة الكونية، والرفق بالخلق ورحمتهم، ومحبة الخير لهم، يصل العالم والداعية إلى معقد الحكمة في الدعوة والتبصير.
وزاد العيسى بأن الرابطة أكدت أيضًا الحذر من جر القضايا الفرعية إلى منطقة العقائد والأصول للتقوي بها من جهة، أو تضخيم مسائلها من جهة أخرى. وجميع ما سبق يؤكد أن لحرية الرأي سقفًا، يجب أن تقف عنده، فإذا انسحب ذلك على ضلال فكري، من شأنه أن يحدث أفعالاً ضارة على السلم الاجتماعي والسكينة العامة، وجب تجريمها وقائيًّا، والوقوف عند فوضاها بحزم، مع أهمية تفكيك تسلل رسائلها المتطرفة علاجيًّا.
وختم كلمته بالشكر الجزيل لجمهورية باكستان الإسلامية - ممثلة في راعي المؤتمر فخامة الرئيس ممنون حسين - على استضافة هذا المؤتمر المهم، والرعاية الكريمة له، في إطار التعاون الإسلامي الذي تتميز به الحكومة الباكستانية.
وكان حفل افتتاح المؤتمر شهد عددًا من الكلمات من قادة المجالس والفعاليات الإسلامية المشاركة؛ الذين أكدوا أهمية المؤتمر في توحيد الكلمة وجمع الصف الإسلامي في مواجهة دعوات التطرف والفكر الإرهابي.
وثمَّن المشاركون الجهود العظيمة التي يبذلها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وولي عهده الأمين، وولي ولي عهده، لجمع كلمة المسلمين، وتحقيق الأمن والسلام والاستقرار في المنطقة، معربين عن سرورهم وتقديرهم للمملكة العربية السعودية في تكوين التحالف الإسلامي العسكري، وإنشاء مركز الحرب الفكرية التابع لوزارة الدفاع بالسعودية.
وأكد المتحدثون الوقوف إلى صف السعودية في موقفها الداعم للشرعية في اليمن، مؤكدين أن الشعب الباكستاني يقف إلى جانب الجندي السعودي في دفاعه عن أرض الحرمين الشريفين.
وأشادت الخطب التي شهدها حفل الافتتاح برؤية الرابطة الجديدة التي تضع نشـر مبادئ الإسلام السمحة، والتصدي لتيارات الغلو والتطرف التي تمزق الأمة، وتهدد مكتسباتها، على رأس أولوياتها، مثمنين للرابطة عقد هذا المؤتمر في إسلام أباد.
وتناول المؤتمر في يومه الأول محوري الإسلام ومنهجه الوسطي، والتطرف الفكري في ميزان الشرع، وناقش في محوره الأول حرمة الدماء وعصمتها في الإسلام، والوسطية الفكرية بين النظرية والتطبيق، ودور العلماء في معالجة الغلو والتطرف. فيما ناقش المحور الثاني فقه التعايش في الإسلام وضوابطه، و(المسلمون والتعدد الثقافي)، ومسؤولية تحقيق الأمن والاستقرار.