لست بصدد تصنيف السراق (أو الحرامية) لدينا أو في بلاد العالم لصغير وكبير بحسب وزن ما اقترفوه من سرقة من خيرات أوطانهم أو أوطان غيرهم، ولا أعتقد أنني أملك القدرة لو حاولت ذلك، لكنني موقنة - وقد اطمأنت قلوب كثيرة أيضًا - بعدالة الله تعالى التي ستأتي لا محالة، وينكشف المفسدون أحياء وأمواتًا، ولات ساعة مندم!
لا أدعي المثالية؛ فالأخطاء كثيرة (عفا الله عنا)، لكنها في هذا الموقف بالذات لا تعني أنها صادرة من طفل (أو بزر بكرة يعقل)؛ فالتمرس الذي كان عليه يشير إلى أنه لم يكن ليُنهَى أو يُعلَّم أو تُعزَّز الرقابة الذاتية داخله وهو لا يزال نبتة طرية العود، يصطبغ عليها منهجه في الحياة، ويشب عليها، وتنبني طباعه وعاداته.. والأهم يتعزز وازعه الديني وخوفه من الله تعالى.
ذاك الصغير الذي أحدثكم عنه جريء بالقدر الذي يجعله يسرق في وضح النهار، وكأنه أمن العقوبة، ولم يفكر فيها أمام إغراء الشوكولاته وحبات اللبان الملونة؛ ففي عمره الذي يبدو أنه لم يتخطَّ السابعة فقط اعتدنا على جرأة ناعمة جدًّا منهم (إن وجدت). وبمقارنة بين جيله وجيل الطيبين مثلاً سنخرج بنتائج مضحكة جدًّا، لكم أن تتصوروها بهدوء!
كنت وقتها أقف في دوري بعد والدته أمام المحاسب في أحد أسواق الرياض الكبيرة، وفي الوقت الذي انشغل فيه المحاسب الأجنبي بالكم غير القليل من مشترياتهم كان الصغير يلتقط بأعلى درجات الثقة والخفة من صف المغريات التي تجتذب أمثاله من شوكولاته وبسكويتات صغيرة وخفيفة! ويمر من خلف والدته، ويضعها على طرف طاولة فارغة لمحاسب غائب فيما يبدو. كنت أراقب الصغير وهو ينظر لي بلا اكتراث، مع أنه عرف أنني عرفت نية السرقة التي يتبناها! واستغربت أنه يفعلها على المكشوف! انتظرت الأم لتعيد المسروقات التي بدأت تتكاثر، وفيما يبدو لديه كيس صغير فيه مشروبات، استطاع أن (يهربها)، فلم تكن مشغولة تمامًا، ويمكنها ملاحظته ببساطة فيما يبدو لي طبعًا. كنت أتمنى أن أمسك يديه النحيلتين، وأعطيه درسًا في الأخلاق مثلاً! أو حتى أنبّه والدته، لكن المحاسب فيما بدا لي كان منتبهًا، وأرجو ألا يكون معتادًا! إذ سمعته يقول (أنت رجع) (جيب كله هنا حساب). التفتت والدته، وبهدوء غريب تسأله: أنت ما حاسبت عليها؟ أعاد بعضها، ثم رجع لسرقته!! فطلبتُ منه أنا أيضًا أن يعيدها، ونظر لي وكأنني لم أتحدث، ثم انشغلت عنه، حتى اختفى وأنا أتأمل فعلته وهو بهذا العمر كسارق صغير!
لكم أن تتخيلوا كيف سيكبر وهو يعتاد هذا الحصول السهل على الأشياء دون أن يدفع ثمنها؟ وكيف يجرؤ على الأمور السيئة بقلب بارد. لا أحد يستهين بالأشياء الصغيرة التي سرقها مع الألف ريال التي دفعتها والدته لمشترياتها مثلاً؛ فربما تكون والدته (إن هي انتبهت له) قد حسبتها بهذه الطريقة؛ فالأمر يتعدى مجرد عشرين ريالاً، كان ثمنها. الأمر أكبر من ذلك بكثير؛ فهل هكذا نربي السراق عندنا؟ أم أن سرقتهم تظهر فجأة أحيانًا مع بريق المال السهل الذي يكون بطعم الشوكولاته التي ذابت في فم ذاك الصغير منذ زمن وكبر عليها!!
لن أقول لِمَ أطفال الأجانب لا يفعلونها، ويستهجنها أهلهم لو صدرت منهم، لكنني أقول: هل كانت الأم لتسمح لطفلها بأن يقترف ذلك لو كانت في أمريكا أو أوروبا؟
مع أن تلك الممارسات المشينة وغيرها - عدا أنها مرفوضة في ديننا - تُعتبر غير حضارية لدى الأمم المتحضرة، وقد تعبوا في تربية أبنائهم حتى تشربوا (الصح) فيها، وصارت تلقائية تمامًا (لا تنسوا أنني أحدثكم عن أطفالهم!!).
أخطاء كثيرة يشب عليها الصغار بذريعة أنه صغير!! تقول صديقتي: حين أنهى صغيرًا غريبًا عن رمي الأشياء في الشارع يرميني بها أحيانًا!!
يذكِّرنا ذلك بالمتنمر الصغير، الذي يعتبر ظاهرة قديمة، تشمل الصغار الذين صاروا شيبانًا الآن، وجيل (عبدالمجيد) الذي اتبعت والدته أساليب كثيرة؛ لتقوي قلبه، وتحميه من زملائه المتنمرين عليه، الذين كثيرًا ما أبقوه جائعًا نهاية اليوم الدراسي؛ فقد كان هدفًا لهم بجيبه العامر بثلاثة ريالات، وزعتها والدته في جيوبه السرية أملاً ببقاء ريال واحد يشتري به ماء في عز الصيف قبل أن يعود إلى البيت. كل هؤلاء الأشقياء لو أيقنوا أن فعلتهم تلك ستعقبها محاسبة صارمة، وأن سؤالاً صاعقا ينتظرهم: من أين لك هذا؟ لما فكروا في تكرراها!
الموجع في كل ذلك أن يصير الموقف عاديًّا غير مستغرب، وتخرج لي ابتسامة مائلة، تستهجن بدورها استهجاني، في الوقت الذي لا زال فيه "عقلة الإصبع" الشقي يتستر خلف أمه بالمزيد من المسروقات اللذيذة!!