لا أعتقد أن هناك ما هو أشد ألماً من أن ترى امرأة تتسول الناس، فما بالنا إن كانت تلك المرأة كبيرة في السن! ومما يزيد الأمر سوءاً تزايد الحالات، وخصوصاً في أوقات الذروة بالنسبة للخروج أو العودة من العمل؛ فكل إشارة مرور أضحت نقطة تسوُّل رسمية.
ومما يزيد الأمر تعقيداً الحملات الإعلامية التي تُشنُّ على هذه الفئة بحجة أنهن يشوهن المنظر العام، ويعطين فكرة سيئة عن بلادنا.
ولكن السؤال الأهم: من يضع المعيار لمعرفة ما إذا كن فعلاً محتاجات؛ فتقوم الجهة المسؤولة بكفايتهن بعد دراسة حالاتهم، وتؤمِّن لهن المكافآت المخصصة، التي تكفل لهن العيش الكريم، بما في ذلك السكن اللائق.. ولكن ماذا لو كن محتاجات، ولكن لا يحملن إقامةنظامية؟
الرغبة في الإجابة عن هذا السؤال هي ما شجعني على الكتابة في هذا الموضوع؛ فقد كثر الحديث عن التسوُّل في الطرقات، وتحديداً من قِبل النساء، في أكثر من وسيلة إعلامية، ولكن التعاطي مع هذا الموضوع فيه شيء من الخلل؛ لأن التركيز على جانب واحد من القضية وإهمال الجوانب الأخرى من شأنه أن يضلل المسؤول، ويقدم له معلومات ناقصة؛ فلا يجب أن ينسينا حرصنا على القضاء على ظاهرة التسوُّل أهمية تجفيف منابعه؛ وهذا سيقودنا حتماً إلى إماطة اللثام عن حجم المشكلة الموجودة التي يجب أن تسبق القضاء على هذه الظاهرة. هناك آلاف من البشر يعيشون بيننا، ومنهم من وُلد على أرض السعودية وتربي بيننا، ومنهم من تخلف عن العودة لبلده من عمرة وحج، ومنهم من هو هارب من كفيله؛ وهنا يجد نفسه وجهاً لوجه أمام أنظمة العمل التي لا تمكِّنه من العمل ما لم يحمل إقامة نظامية سارية المفعول، وهو الشيء الطبيعي.. وهذا يتطلب التفكير بشكل سريع لوضع حلول ولو مؤقتة؛ لكي يحمل كل من يعيش على تراب هذا الوطن ما يعرِّفه رسمياً؛ حتى يعود لبلده، أو يبقى بكرامته؛ وبالتالي فإن من لا يحمل هذه البطاقة يُعتبر خارجاً عن القانون؛ ويتحمَّل كل العقوبات التي ستصدر بحقه؛ وبالتالي فإن هذه الطاقات الشابة التي نراها تتسول يمكن أن تتحول إلىقوى عاملة منتجة، المجتمع أولى بها. فعملية تأمين الأكل والشرب والمأوى ليست من باب الترفيه، بل هي حاجة أساسية، وماسة؛ ولذلك فإن تسوية أوضاع من يقيم على أرض الوطن، ممن ليس لهم إقامات نظامية، هي حاجة ملحة؛ وتحتاج إلى بذل الوقت والجهد لحلها.
لقد ذهلت عندما كنت في الطائف العام الماضي لقضاء إجازتي السنوية في شهر رمضان المبارك، وإذا بي أرى متسولات مفترشات الطريق من جهتَيْه على امتداد شارع الستين المؤدي إلى منطقة الشفاء السياحية. فهل نقول إن هؤلاء النسوة يشهوهن المنظر؟ علينا أن نقف على حاجتهن، وقد اقتربت من بعضهن وسألت عن أحوالهن، فمنهن من تقول إنها تعول عدداً من الأبناء والبنات لعجز الزوج أو سجنه أو موته، وراتب الضمان لا يكفي، ومعظمهن مواطنات. فالقضية ليست مجرد انطباع يسجَّل هنا وهناك، بل نحن أمام مشكلة تأمين متطلبات حياة بأكملها لمجموعة من البشر، وجدنا أنفسنا أمامهم وجهاً لوجه.
وكم أعجب لمن ينتقد من يبيع ماء أو ورداً أو خلافه من الرجال عند إشارات المرور، بدعوى إنها وسيلة للتسول؛ فهذا الكلام غير صحيح؛ من يبيع لكي يأكل أو يعول أسرته فهذا لا يتسول بل يأكل بعرق جبينه، وهذا لا يمنع من منحه فرصة؛ لكي يصحح وضعه، ويأكل من عرق جبينه. أما التذرع بأن المياه التي يبيعونها مغشوشة فأنا أرى أن فيه مبالغة؛ ومن ثم فإن هذه الطاقات من الأسلم استغلالها في العمل الشريف، ومنحها بطاقة سماح بممارسة العمل، بعد أخذ بصماتهم؛ وهو ما يجعلهم معروفين من قِبل الجهات الأمنية، وتحت طائلة العقاب فيما لو بدر منهم ما يخالف الأنظمة.
وأنا أعلم أن الموضوع ليس بالأمر الهين، ولكن تركهم الآن بدون هوية من شأنه أن يوفر لهم الغطاء الكامل للوقوع في المخالفات، كعمليات التصنيع المشبوهة، أو تصنيع بعض المواد الغذائية بدون أية مواصفات أو اتباع أساليب النظافة والسلامة؛ وهو ما سوف يعرِّض حياة المواطن للخطر. ولكنَّ احتواءهم بالطرق النظامية سوف يؤدي إلى عملية فرز وتنظيم لأوضاعهم؛ وهو ما سوف ينعكس - بإذن الله - بالخير على مصلحة المواطن والوطن. والله من وراء القصد.