بعد أقل من ثماني سنوات على تأسيس السعودية قامت الحرب العالمية الثانية، وعادت موجة (انتهت السعودية والسعوديون). حرب عالمية كبرى، والسعودية دولة كبيرة حديثة فقيرة، ليس لها بالحلفاء معاهدات، وليس لها بدول المحور علاقات.. ستبتلعها الحرب، ويقتلها الفقر.. بلاد بلا زراعة ولا صناعة، والحرب تمنع التصدير والاستيراد.. فلا تجارة.. ولا حج.. بل لا معونات.. إن نجت من الحرب فلن تنجو من الجوع.. ليتكرر فشل التوقعات وتنجو من الحرب، ولم يدخلها جيش.. وتنجو من الجوع، بل تتجه نحو الغنى.
بعد فشل التوقعات - رغم كثرتها، وتعدد أدلتها - تغيرت النغمة نحو نظرية المؤامرة، وأنها دولة قامت ضد العرب لتمنع تحررهم من الاستعمار، وستنتهي بعد تحرر البلاد العربية.. لكن الطاولة قُلبت تمامًا، فكانت من الدول القليلة التي أسست جامعة الدول العربية، ثم ساهمت عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا في استقلال كثير من الدول العربية.
عام 1953م تُوفي الملك المؤسس؛ لتعود نغمة (انتهت السعودية والسعوديون). ذهب المؤسس وهي دولة الرجل الواحد، والأخطار تحوط بها من كل جانب، وأطماع منوعة تستعد لاسترداد ما يمكن.. ولكن الأعوام التي تلت شهدت فيها السعودية أجمل أيامها أمنيًّا وسياسيًّا وتنمويًّا.
بعد سنوات من الاستعمار للدول العربية تشكَّلت خلال الأربعينيات والخمسينيات نخب عسكرية ومدنية، شكَّلت أحزابًا سرية وعلنية وتحالفات مع قوى عالمية، أدت لتحول كثير من الدول الملكية إلى جمهوريات عسكرية ودكتاتوريات شخصية بواجهات حزبية.. (السودان، سوريا، مصر، العراق، اليمن وليبيا).. لترجع النغمة قوية واثقة بأن الخليج في طريقه للتبديل، وقيام الجمهوريات، ولاسيما السعودية؛ فقد (انتهت السعودية والسعوديون).. وصدَّق هذه بعض أبناء الخليج والسعودية؛ فانخرطوا في أحزاب عربية وتحالفات ومنظمات سرية انتظارًا لوهم التغيير الذي سمعوه في مقاهي بيروت وصالونات القاهرة.. ثم تنعكس الجمهوريات الجديدة إلى الفقر والقهر والقتل والسجون وتراجُع حاد في الحريات وتنافس في الانهيار الاقتصادي.. أما السعودية وبقية دول الخليج فقد شهدت سنوات جميلة مستقرة غنية بنمو اقتصادي متصاعد.
في عام 1952م انقلب الضباط الأحرار والإخوان المسلمون على الملكية في مصر بقيادة الرئيس الصوري محمد نجيب، ثم أمروا الشعب بأن يخرج في ثورة عُرفت بعد ذلك "ثورة يوليو" هروبًا من مسمى انقلاب.. وبعد عامَيْن انقلب الرئيس جمال عبد الناصر على المنقلبين؛ فعزل محمد نجيب، وألحق الإخوان المسلمين ببقية الأحزاب في السجون، بعد أن قتل ستة من قياداتهم؛ لينفرد بالسلطة، ويقضي على اقتصاد الملكية القوي وعلى الحياة السياسية الديمقراطية، ثم يعلن نفسه زعيمًا عربيًّا، غايته القضاء على برجوازية الملكيات سعيًا لولايات عربية متحدة تحت قيادته، ويغريه نجاح العسكر في الاستيلاء على السلطة في سوريا والعراق.. وهز بإعلامه وجيشه المسلح من الاتحاد السوفييتي وسياساته العدائية الكثير من قناعات العرب وأولوياتهم؛ لتعد نغمة (انتهت السعودية)؛ فهذا عبدالناصر القائد الفذ الأوحد يهدد السعودية، ويتسابق المئات من الشباب السعودي والخليجي نحو هذا الوهم الجديد، وتقف السعودية بتحدٍّ في وجه التيار الناصري وحلفائه قوة بقوة، وإعلامًا بإعلام، وسياسة بسياسة.. لتنهار بالونة الناصرية، وتضعف؛ لتنتهي بعد حرب 67م، وتبقى (السعودية والسعوديون) دولة مستقرة قوية غنية.. وتبدأ سنوات خطب الود السعودي من السياسيين والمفكرين العرب.. فالدولة السعودية التي طالما وصفوها بالتخلف والبداوة والبدائية.. أصبحت ملاذهم الاقتصادي والسياسي. (يتبع)