ربما سيؤدي الفوز الساحق لدونالد ترامب الجمهوري على منافسته هيلاري كلينتون الديمقراطية إلى تصحيح الكثير من المفاهيم التي كانت تروج لها المؤسسات الإعلامية الكبرى في الغرب استنادًا إلى نظريات إعلامية ودراسات، تسندها التجارب والدراسات، بل يمكن القول إن مراكز الاستطلاعات بعد ماراثون ترامب - هيلاري الانتخابي قد أُصيبت في مقتل.
وإذا نظرنا بحياد لما جرى في السباق إلى البيت الأبيض بين ترامب وهيلاري، ومن خلال نظرة تحليلية لمجريات الوسائل والأدوات التي سخرها كلا المعسكرين، نستطيع ببساطة أن نلحظ أن الإعلام الأمريكي ربما هذه المرة يظهر بشكل فاضح أنه منحاز بالكامل لمرشح، هو هنا هيلاري، على حساب مرشح آخر هو ترامب، رغم أن هذا يتنافى مع أبسط شروط المهنية الواجب توافرها لمزاولة العمل الإعلامي، والالتزام بالموضوعية كشرط أساس في موقف كهذا، ولكن - للأسف - حاد الإعلام الأمريكي ومَن سار في ركبه عن الموضوعية، بل أستطيع القول إنه انتهك كل المحرمات في سبيل تسيير العملية الانتخابية؛ لتصب في مصلحة هيلاري على حساب ترامب، وهو بذلك وقع في الخطأ الجسيم الذي حذَّر منه مرارًا؛ إذ إنه – للأسف - وقع تحت تأثير الاتجاه النظري في التأثير، الذي تصوره بكل وضوح نظرية الرصاصة أو الحقنة تحت الجلد، التي ظهرت بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وأهم ما جاء فيها افتراضها أن الرسالة الإعلامية تصل إلى كل أفراد المجتمع بطريقة متشابهة Uniform Reception، أي أن كل فرد يستقبلها بالطريقة نفسها، بمعنى انتفاء الفوارق بين الأفراد في تفاعلهم معها، كما تفترض النظرية أن المتلقي سيستجيب دائمًا وبشكل قوي للرسالة التي يتلقاها، بما يحقق هدف القائم بالاتصال؛ فهو يفترض أن المتلقي هو العنصر الأضعف في العملية الاتصالية، في حين أن المرسل هو العنصر المسيطر والمهيمن على الموقف الاتصالي بالكامل؛ لأنه في النهاية هو من سيقرر إذا ما أقنعته الرسالة فيقبلها، أو لم تقنعه فيرفضها تمامًا. ورغم أن هذه النظرية ثار حولها ما ثار، وهي شبه منسية، ولكن يبدو أنها كانت حاضرة في المشهد الانتخابي لترامب - هيلاري وبشكل قوي.
وهذا يفسر ما حدث بالضبط؛ إذ استمر الإعلام في عملية الدعم اللامحدود من خلال ضخ المعلومات بشكل يومي عن ترامب وفضائحه، ومحاولة تشويه صورته أمام الرأي العام بكل الطرق التي يمكن أن تقنع الناخب بعدم التصويت له.. وتصوَّر الإعلام أنه قد ملك ناصية الشعب الأمريكي، وبالطبع هذا كان مجرد افتراض، لم يتم التحقق منه، كما أن الإعلام تصوَّر أنه من الممكن تحت هذه الضغوط أن ينسحب المرشح الجمهوري ترامب من السباق الانتخابي، تحت سيل الضربات اليومية التي يواجهه بها الإعلام، ومدى التعاطف الذي حظيت به هيلاري نتيجة لذلك؛ ما زاد من عنصر الثقة بأن ترامب انتهى، وحُرقت ورقته كمرشح جمهوري. وكل هذا يجري وترامب صامد، ويتلقى الضربات الواحدة تلو الأخرى، كما سبق له أن تلقاها في ميادين المصارعة الحرة، ويرد ويصد بحرفية، ويحاول أن يفند بكلمات موجزة ومركزة، لكنها ذات مغزى في الوقت، الذي لم يحِدْ فيه عن ترديد ما هو مقتنع به. وقد استطاعت كلماته على قِلّتها أن تصل لأذن الناخب؛ فقد ركز ترامب بشكل ملحوظ على تعزيز مفهوم فساد النظام الإداري الذي يعمل في أمريكا بقيادة الزعامات السابقة، واستمراره في ظل القيادة الحالية لأوباما بشكل لافت للنظر، ويقدم الدلائل والإحصائيات، ويواجه على مدى ثلاث مناظرات بدون كلل أو ملل، وبدأ يركز على تجاوزات هيلاري من خلال ما كشفت عنه صحيفة واشنطن بوست، حول تورطها في استخدام بريد إلكتروني "E-mail" غير رسمي في مخاطبات متعلقة بعملها في الخارجية؛ الأمر الذي يعتبره كثيرون خطرًا يهدد الأمن القومي للبلاد؛ ما دعا عددًا من الشخصيات العامة لمطالبتها بالكشف عن حساباتها الإلكترونية السرية. وتأتي الطامة الكبرى التي تمثلت في إعلان مكتب التحقيقات الفيدرالي "إف بي آي" أنه لن يوجه أي اتهامات لهيلاري كلينتون بسبب فضيحة تسريبات رسائل بريدية من بريدها الإلكتروني إبان فترة عملها وزيرة للخارجية. وما هي إلا ساعات حتى تظهر هيلاري مع أوباما على متن الطائرة الرئاسية؛ إذ ألقى أوباما وزوجته بكامل ثقلهما خلفها في محاولة دعمها بوصفها مرشحة للحزب الديمقراطي؛ فقد قال أوباما أمام حشد من أنصار المرشحة في ولاية كارولينا الشمالية: "أنا هنا اليوم لأنني أؤمن بهيلاري كلينتون".
وقد استطاع الناخب الأمريكي - وهو الخبير بكل ما يدور حوله - استيعاب ما يدور حوله، وأن هناك حربًا خفية، تريد أن تسقط ترامب بأي وسيلة لمجرد أن هيلاري لا بد أن تفوز؛ وهذا ما جعل معظم الناخبين يغيّرون بوصلتهم تجاه ترامب من خلال وعيهم الداخلي، وكردة فعل على انحياز الإعلام بالكامل لهيلاري، وكردة فعل عكسية لتوقعات أجهزة الإعلام التقليدية والجديدة، إضافة إلى ما سببه الضخ اليومي لاستطلاعات الرأي العام من صدمة إضافية للجمهور الأمريكي الذي ضاق ذرعًا بسماع صوت واحد، وتوجُّه واحد، وكأن ترامب سيخوض هذه الانتخابات شكليًّا فقط.
ومن هنا تكون لدى الناخب الأمريكي تصوُّر بأن أمرًا ما يدبَّر؛ لكي لا يصل ترامب لسدة الحكم، وفي هذه الأثناء عزز ترامب من موقفه ومن رغبته في التغيير، وخصوصًا في الولايات المتأرجحة، وعلى رأسها ويسكنسن. وللحق، بذل الرجل جهدًا ليس بالهين؛ لكي يكسب أصوات هذه الولايات، وبالفعل منحت ويسكنسن ترامب الرقم السحري "217" في المجمع الانتخابي، وكان بمنزلة إعلان فوز ترامب الكاسح بما لا يدع مجالاً للاجتهادات، وإن تأخر إعلان ذلك لاستيفاء جميع الأصوات التي جاءت تباعًا؛ لتزيد الفارق، وتزداد معه آلام وتوجعات وأنين كل من راهن على فوز هيلاري.
وببساطة شديدة، ما حدث وما يعيشه الشارع الأمريكي الآن من مظاهرات تندد بفوز ترامب ما هي إلا تعبير عن السخط من الأداء السيئ لوسائل الإعلام، وللأسف ها هي تعالج الخطأ بالخطأ، وتؤجج الشارع من جديد ضد ترامب. ولئن كان من السهل جدًّا أن تسيطر على عواطف الناس فإن من الصعب جدًّا أن تقنعهم باتخاذ قرار هم ليسوا مقتنعين به، وهذا ما حدث، فإن محاولة شيطنة ترامب رغم كل ما قدمه من صوت مملوء بالانتقام والتعالي لم يسعف هيلاري في التغلب عليه، وقد استطاع في آخر السباق أن يستميل عواطف وقلوب محبيه ومَن كانوا مترددين؛ لينضموا لحزبه، من خلال نداء سخّر فيه كل خبراته، وبصوت تصالحي ومؤثر، وقبل ساعتين على إغلاق صناديق الاقتراع؛ إذ وجَّه دونالد ترامب ما يشبه "نداء الاستغاثة" إلى مؤيديه طالبًا منهم التوجُّه للإدلاء بأصواتهم قبل فوات الأوان، فجاء في شكل تغريدة على حسابه الرسمي في تويتر؛ إذ توجه بكلامه إلى الناخبين في ولاية فلوريدا قائلاً: "لا تتراخوا، استمروا في التصويت، الانتخابات لم تنتهِ بعد، نحن نبلي بلاء حسنًا، ولكن ما زال هناك الكثير من الوقت.. إلى الأمام فلوريدا فلوريدا". وربما كانت هذه التغريدة بمنزلة القشة التي قصمت ظهر هيلاري وحزبها، وأُعلن ترامب الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية، فيما ترنح الإعلام ومَن صدّقه مذهولاً من الصدمة.