درسنا فيما مضى أن الإنسان إذا تكرر عليه المشهد يبدأ في الاعتياد عليه، ومع استمرار عملية التكرار والاعتياد على المشهد قد يُصاب المرء بما يسمى بالتبلُّد الحسي، الذي يُفسَّر ببساطة بعدم الاكتراث بما تقع عليه عيناه نتيجة تكرار المشهد.
ويبدو أن المشهد المروري المأساوي اليومي المروع ينطبق عليه ما قدَّمتُ له؛ والدليل عدم اعتبار معظم قائدي المركبات، واستمرار مسلسل الرعونة في القيادة، وانتهاك كل حرمات الطريق المنصوص عليها دولياً، التي تصل إلى درجة العودة للخلف في طريق رئيس؛ لأن قائد المركبة تجاوز المخرج نتيجة السرعة، أو القفز من فوق الرصيف اختصاراً للطريق، أو الانتقال من مسار إلى آخر قفزاً وبدون إعطاء إشارة.. بل إن البعض لا يعلم أن هناك ما يسمى بالإشارة، ولا يستخدمها عند الانعطاف أو التجاوز أو الانتقال من مسار إلى آخر.. وكل ذلك على مرأى ومسمع من جهاز المرور، بل إن معظم رجال المرور لا يربطون أحزمة الأمان، ولا يستخدمون الإشارة. أما بلاغات المواطنين عن المخالفات فلا يتجاوز مداها حناجرهم المبحوحة، ولا أعلم ماذا تفعل الكاميرات التي كلفتالملايين، ويفترض أنها تراقب الطرق، وتسجل هذه الانتهاكات الصارخة التي تحدث على مدار الساعة، بدلاً من التقارير الصباحية عبر الإذاعات التي لا تعرف إلا مصطلح "الكثافة" على الرغم من أنه مصطلح فيزيائي بحت، ولا أعلم كيف استعارته الإدارة العامة للمرور؛ ليصبح حديثالساعة بالنسبة لها.
والشيء نفسه ينطبق على تجاوز السرعة الجنوني بدون رادع.. هل تعلمون أن مَن يسير بمركبته في شارع داخلي في الولايات المتحدة الأمريكية متجاوزاً سرعة 45 كم في الساعة تطوقه الدوريات، وإن هرب اعتُبر خارجاً عن القانون، وقد يلقى حتفه نتيجة المطاردة؟!
والحال عندنا "سِرْ بالسرعة التي تريد طالما أنت خارج نطاق ساهر الذي يهابه الكثيرون"! ولكن لماذا يظهر ساهر في أماكن، ويختفي في أخرى؟ أليست أرواح الناس مهمة في كل مكان؟ هل تعتقد الإدارة العامةللمرور أن إعلانها نسب المتوفين والمعاقين يعفيها من المسؤولية؟ إذن، فما هو عملها إذا لم تضمن للناس قيادة آمنة بقوة النظام، وليس بالاعتماد على وعي الناس؛ فلا يمكن أن نُنتج الوعي عند الناس إلا من خلال إلزامهم بقوانين مكتوبة وصارمة. وهل أنتجت لنا جميع الحملات المرورية السابقة سوى الاستمرار في مسلسل المخالفات المرورية المفضية إلى الحوادث والموت اليومي الذي تجاوزت أعداده كل تصور؟ فالوعي مرتبط بالإدراك، وطالما انعدم إدراك معظم قائدي السيارات لخطورة ما ينتج من إساءة استخدام المركبة أو انتهاك أنظمة المرور فعن أي وعي نحن نتحدث؟ لقد أصبحت طرقنا مسرحاً للتهور وحرق الأعصاب، ومعاناة حقيقية، لدرجة تجعلك تشعر بالإحباط. المخالفات أمام عينيك، وتستحضر مشهد النظام المعمول به في العالم أجمع، وفجأة تجد التساؤل يتكرر على مسمعك بطريقة تزيد من إحباطك: هؤلاء القلة الذين لا همَّ لهم إلا إثارة الفوضى في الطريق أين رجالالمرور منهم؟ هل هذا الجنون الذي نراه يومياً على طرقنا بدون رادع يمكن تفسيره؟ لا يمكن أن نقبل أي عذر، لن يوقف هذه الرعونة والهستيريا التي تصيب البعض عندما يقود سيارة بعينها؛ فتجعله لا يفكر إلا من خلال دواسة السرعة؛ فينطلق بدون رحمة مقدماً على الموت له والإضرار بغيره وبالممتلكات العامة، معتمداً على غياب من يجب أن يوقفوه عند حده حماية له ولأرواح الأبرياء.. ولكن – للأسف - يستمر الرجل في غيه، وتستمر المأساة التي ندفع نحن الأبرياء ثمنها مادياً ومعنوياً.
وما دعاني للكتابة في هذا الموضوع هو التوثيق الذي لا يقدَّر بثمن من كاميرا أحد المحال التجارية شرق القنفذة لحادث معلمات القنفذة الثماني، عندما تعرض الباص الذي كان في طريقه لنقلهن لمدارسهن للتصادم مع سيارة أخرى، كانت تسير بسرعة عالية بالجهة المقابلة، وارتطمت بباص المعلمات؛ ما تسبب في انقلابه مرات عدة؛ ونتج منهإصابة جميع المعلمات وسائقهن، إضافة إلى سائق السيارة الأخرى، بإصابات متفرقة بين البليغة والمتوسطة.
وبالطبع، أنا واثق بأن الخبر - رغم بالغ أهميته - لم يكن ليحظى بالمتابعة الكبيرة من القراء لولا أنه ارتبط بمشهد حي عن الحادثة؛ ذلك أن الناس تعودت أن تسمع وتشاهد مثل هذه الأخبار بشكل شبه يومي؛ وبالتالي أُصيبت بالتبلُّد الحسي؛ وأصبحت أهمية الخبر تنحصر في عدد المتوفين والمصابين لا أكثر!!
وحسبما أظهر المقطع، فقد كان الجميع مسرعاً وبتهور؛ ولذلك جاء الارتطام شنيعاً. ويبدو أن الإصابات البليغة بنسبة أكبر من المتوسطة؛ لأن المشهد يوضح خروج السيارة الباص التي تقل المدرسات عن مسارها بشكل مفاجئ، وارتفاعها عن الأرض بعض الشيء، ومن ثم انقلبت مرات عدة.
تُرى، كم خسر المجتمع بسبب هذه الحوادث العبثية من قِبل سائقين لا يقدرون حجم خطورة المركبة التي يقودها الواحد منهم؟! وكما يظهر من المقطع المصور، فإن هناك حالة تجاوز خطرة من السيارة المواجهة للباص المنكوب، وكان في المسار الآخر سيارة تسير بسرعة لم تمكِّن السيارة المتجاوزة من الركون في الجهة المقابلة؛ ما حتم الالتحام بين السيارتين.
تُرى، لو كانت السرعة المحددة على الطرقات السريعة معمولاً بها من خلال تطبيق نظام مراقبة مُحكم كما هو مطبّق على الطرق السريعة في جميع دول العالم، ماذا كانت النتيجة؟ فلسنا بحاجة إلى اختراع العجلة من جديد. والسؤال القائم: لماذا لم يتم تطبيق هذا النظام الرقابي على طرقاتنا بشكل كامل وفعال؟ نعم، نريد أن تصبح طرقاتنا الداخلية والطويلة آمنة بنسبة مائة في المائة، وهذا لن يتم إلا بتوفيق الله - عز وجل - وتفعيل النظام. ومن الطبيعي أن تكون هناك انتقادات لمثل هذا النظام، ممن تعودوا على خرق الأنظمة ومحاولة التصيُّد لأي هفوة أو زلة للطعن في النظام. وللأسف، إنهم يجدون بعض الدعم من بعض الأصوات والأقلام الإعلامية التي نحسن بها الظن. إن علينا أن نحترم الأنظمة. فما زالت بعض الأقلام تسيء لنظام ساهر، وبشكل حاد، كانتقاد عدم ظهور سيارات ساهر المزودة بالكاميرات. وهذا القول مردود على قائله لسبب بسيط، هو أن القاعدة تنص على أن تسير المركبة وفقاً للسرعة المحددة على اللوحة التي تشير لذلك، وليس من منطلق خلو الطريق من الكاميرات.
من المؤلم أن تكون المعلمات الضحايا الأبرز لمثل هذا الانفلات المروري؛ فهن المتضرر الأكبر من هذا النزف المؤلم.. فكم من أسرة فقدت ربتها في حادث مروري، وكم من أم أُعيقت؛ وأصبحت حبيسة كرسي متحرك، وربما السرير الأبيض بلا حراك بسببها.. فمن يدقق في المقطع المصوَّر للحادث يجد أنه يجسد الحالة البائسة للقيادة على الطرق؛ فتجد أن السيارات مندفعة بأقصى سرعة ممكنة دون أخذ الاعتبار لمفاجآت الطريق أو انفجار الإطارات، وغير ذلك مما يمكن أن يشكل فاجعة - لا قدر الله -.
وفي النهاية، يبقى الجواب عند المرور، هو من يجب أن يوقف هذا النزيف المستمر بتطبيق القوانين المرورية فوراً. وهذه أمانة تحمَّلها جهاز المرور ومن يعمل فيه؛ وعليه أداؤها بكل صبر وأمانة. والله من وراء القصد.