تَمَيّز العرب بالفصاحة والبلاغة والبيان، وأوردوا في كتبهم الكثير من الشواهد على فصاحة ألفاظهم وبلاغة معانيهم؛ حتى وصل الأمر إلى استخدام الرمز والكناية للقضاء في واقعة والحكم فيها، دون أن يعرف القاضي حقيقة الواقعة، وهي قصة ما جرى لزوجة الخادم فيروز مع الملك، والتي قضى فيها بأنها نزاع على بستان.
وفي الباب السابع من كتاب "المستطرف في كل فن مستظرف"، الذي خُصص للبيان والبلاغة والفصاحة، يروي الكاتب شهاب الدين محمد بن أحمد أبي الفتح الأبشيهي، ويقول:
مهمة للخادم فيروز
حُكِيَ أن بعض الملوك طلع يوماً إلى أعلى قصره يتفرج؛ فلاحت منه التفاتة؛ فرأى امرأة على سطح دار إلى جانب قصره لم ير الراؤون أحسن منها؛ فالتفت إلى بعض جواريه فقال لها: لمن هذه؟ فقالت: يا مولاي هذه زوجة غلامك فيروز، قال: فنزل الملك وقد خامَرَه حبها وشُغف بها؛ فاستدعى فيروز وقال له: يا فيروز، قال: لبيك يا مولاي، قال: خذ هذا الكتاب وامضِ به إلى البلد الفلانية وائتني بالجواب؛ فأخذ فيروز الكتاب وتَوَجّه إلى منزله؛ فوضع الكتاب تحت رأسه وجهز أمره وبات ليلته؛ فلما أصبح ودع أهله وسار طالباً لحاجة الملك، ولم يعلم بما قد دبره الملك.
رد زوجة فيروز على الملك
وأما الملك؛ فإنه لما توجه فيروز، قام مسرعاً وتَوَجّه متخفياً إلى دار فيروز؛ فقرع الباب قرعاً خفيفاً؛ فقالت امرأة فيروز: من بالباب؟ قال: أنا الملك سيد زوجك؛ ففتحت له؛ فدخل وجلس، فقالت له: أرى مولانا اليوم عندنا! فقال: زائر، فقالت: أعوذ بالله من هذه الزيارة وما أظن فيها خيراً، فقال لها: ويحك إنني الملك سيد زوجك وما أظنك عرفتني، فقالت: بل عرفتك يا مولاي ولقد علمت أنك الملك؛ ولكن سبقتك الأوائل في قولهم:
سأترك ماءكم من غير ورد... وذاك لكثرة الوراد فيه
إذا سقط الذباب على طعام... رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء... إذا كان الكلاب ولغن فيه (لا يرغب ملك بزوجة خادم)
ويرتجع الكريم خميص بطن... ولا يرضى مساهمة السفيه
وما أحسن يا مولاي قول الشاعر:
قل للذي شفه الغرام بنا... وصاحب الغدر غير مصحوب (لا نصاحب خائناً)
والله لا قال قائل أبداً... قد أكل الليث فضلة الذيب (الأسد لا يأكل ما تبقى من طعام الذئب)
ثم قالت: أيها الملك تأتي إلى موضع شُرب كلبك تشرب منه، قال: فاستحيا الملك من كلامها وخرج وتركها فنسي نعله في الدار.
فيروز يعيد زوجته لبيت أبيها
هذا ما كان من الملك، وأما ما كان من فيروز؛ فإنه لما خرج وسار تفقد الكتاب فلم يجده معه في رأسه؛ فتذكر أنه نسيه تحت فراشه؛ فرجع إلى داره فوافق وصوله عقب خروج الملك من داره؛ فوجد نعل الملك في الدار؛ فطاش عقله وعَلِم أن الملك لم يرسله في هذه السفرة إلا لأمر يفعله؛ فسكت ولم يُبد كلاماً وأخذ الكتاب وسار إلى حاجة الملك فقضاها، ثم عاد إليه فأنعم عليه بمائة دينار؛ فمضى فيروز إلى السوق واشترى ما يليق بالنساء وهيأ هدية حسنة، وأتى إلى زوجته فسلم عليها وقال لها قومي إلى زيارة بيت أبيك، قالت: وما ذاك؟ قال: إن الملك أنعم علينا وأريد أن تُظهري لأهلك ذلك، قالت: حباً وكرامة، ثم قامت من ساعتها وتوجهت إلى بيت أبيها ففرحوا بها وبما جاءت به معها.
قضية البستان
فأقامت عند أهلها شهراً فلم يذكرها زوجها ولا ألمّ بها؛ فأتى إليه أخوها وقال له: يا فيروز إما أن تخبرنا بسبب غضبك وإما أن تحاكمنا إلى الملك، فقال: إن شئتم الحكم فافعلوا فما تركت لها عليّ حقاً؛ فطلبوه إلى الحكم؛ فأتى معهم، وكان القاضي إذ ذاك عند الملك جالساً إلى جانبه؛ فقال أخو الصبية: أيّد الله مولانا قاضي القضاة، إني أجرّت هذا الغلام بستاناً (يقصد زوجته، أختي) سالم الحيطان ببئر ماء معين عامرة وأشجار مثمرة؛ فأكل ثمره وهدم حيطانه وأخرب بئره؛ فالتفت القاضي إلى فيروز وقال له: ما تقول يا غلام؟ فقال فيروز: أيها القاضي قد تَسَلّمت هذا البستان وسلّمته إليه أحسنَ ما كان (يقصد أعدت زوجتي لبيت أهلها)؛ فقال القاضي: هل سلّم إليك البستان كما كان؟ قال: نعم ولكن أريد منه السبب لرده، قال القاضي: ما قولك؟ قال: والله يا مولاي ما رددت البستان كراهة فيه؛ وإنما جئت يوماً من الأيام فوجدت فيه أثر الأسد فخفت أن يغتالني فحرمت دخول البستان إكراماً للأسد (إشارة إلى اكتشافه زيارة الملك لبيته في غيابه)، قال: وكان الملك متكئاً فاستوى جالساً وقال: يا فيروز ارجع إلى بستانك آمناً مطمئناً؛ فوالله إن الأسد دخل البستان ولم يؤثر فيه أثراً ولا التمس منه ورقاً ولا ثمراً ولا شيئاً (لم يلمس زوجتك)، ولم يلبث فيه غير لحظة يسيرة وخرج من غير بأس، ووالله ما رأيت مثل بستانك ولا أشد احترازاً من حيطانه على شجره (أي أن امرأتك قوية مصونة حفظت نفسها)، قال: فرجع فيروز إلى داره ورد زوجته، ولم يعلم القاضي ولا غيره بشيء من ذلك والله أعلم.