(سوير) في السوق؟!

(سوير) في السوق؟!

طلبت من السائق أن يدني سيارتها من أقرب نقطة لبوابة السوق. فتحت الباب وهي لا تزال ترش المزيد من عطرها الفاخر الذي كاد يشرق به المسكين. نثرت شعرها المصبوغ على كتفيها، ولفّت طرحتها بلا اعتناء على رأسها الفارغ من كل شيء سوى ساعات ماتعة برفقة صديقتها نوال. أحكمت نظارتها الباريسية، وخطت على مهل تبتسم بثقة؛ فلا أحد سيزعجها مجددًا بالجملة التي ترن كالمسمار عادة في أذنيها (تستري يا امرأة)، وقد أفلحت في السيطرة على غيرة ناشزة من شقيقها الذي يصغرها، حين توعّده والده بالكف عن مضايقتها بغطاء الوجه، وقد عرفها أصدقاؤه، وباتوا يعايرونه مازحين بأقذر الكلمات التي لا يتحملها عادة! كانت تأمره بأن يحلق شعره المربوط كذيل الحصان أولاً، ويرفع بنطال الجينز الذي يرتديه ثانيًا، ثم يمكنه أن يملي عليها ما يجب أن تفعله وما يجب أن تكف عنه!!

رنَّت كلمات إعجاب عابرة في أذنيها لصبية مروا بجانبها. ابتسمت وهي تتنفس بعمق، وخلعت نظارتها؛ لتبدو رموشها الاصطناعية كمخالب قط، تكاد تنسدل على وجنتيها البلاستيكيتين. تأملت البضائع المعروضة في المحال بلا اكتراث، وهاتفت نوال للمرة العشرين، التي لم تجبها على غير العادة! أرسلت عشرات الرسائل ولم تفلح. جلست في المطعم الفخم الذي حجزت فيه وجبة اليوم، وفي مكان مفتوح، يمكنها أن ترى فيه الجميع. كان أحد المطاعم التي تستهويها (شرح، ولا حواجز تكتم الأنفاس!).

لم تكف عن النظر لجوالَيْها ومراقبة (سنابات الصديقات) وصورهن وتغريداتهن، ولم تكن تنتظر هاتفًا من والديها ليطمئنا عليها. ظلت تستمتع بحريتها؛ فهي راشدة بالقدر الكافي، وتستحق الثقة لتتصرف كما تحب، وتحكم على الأمور كلها من منظورها هي، وقناعاتها وحدها!! وقد انمحت تقريبًا صورة معلمة الدين طيلة سنواتها الست في التعليم العام، وهي تلوح بأصبعها، وتكاد تخرم السبورة؛ لتؤكد آيات معينة وأحاديث واضحة التفسير عن ضرورات، لا بد أن تلتزم بها المرأة المسلمة؛ فقد نتأت قوة دخيلة في أعماقها التي لم تستمدها من ملايين والدها المفاجئة، التي نقلتها من سوير (اللقب الذي تكرهه ولصق بها من صغرها)؛ لتصبح (سوسو) الجديدة! ولا من البيت الذي يشبه القصر الذي انتقلوا له مؤخرًا في أرقى أحياء العاصمة بعد بيتهم الذي حشرهم والدها فيه، واستأجر الدور العلوي؛ ليزيد فرص دخله، ولا من لقب الشيخ الذي صار يسبق اسم والدها، أو حتى حفلات والدتها التي تجبرها على حضورها للطبقة المترفة باذخة الثراء؛ لعلها تحظى بعريس (لقطة)، ولا من مصاحبتها صديقتها الثرية التي ترعرعت وفي فمها ملعقة من ذهب، لكنها وجدت تلك الثقة تتسلل إليها أكثر من لصوص تويتريين (ومواقع شتى في عالم افتراضي)، وجدتهم يقفزون لحسابها، ويعصفون بكل قيمها المفترضة، بعد أن اشتموا رائحة البيئة المناسبة التي تعيش وسطها!!

سوير (أو سوسو) وجدت نفسها وهي لم تتجاوز الثالثة والعشرين مفتية وعالمة في فنون المتعة المستحقة لها ولمثيلاتها، وقد حُرمت أجيال سابقة منها، منهم والدتها التي ضاعت بين المشيتين! تزعمت سوير مبادئ لا يحق لها أن تخوض فيها لضعفها الكبير، وثقافتها الضحلة جدًّا وهي تناقش مبدأ الحرمان مثلاً، ولماذا كل شيء حرام؟ ولِمَ يجب أن تخضع المرأة للولاية المتعسفة؟ وهل عليها أن تُحرم من قيادة السيارة فقط لأنها فتاة؟ ولماذا يجب أن تُحرم من الاستمتاع بجمالها فقط حتى لا يخطئ الذكر؟ (سوسو) أفاقت فجأة على جُمل تغيّب الثواب والعقاب من حياتها، والحلال والحرام من تصرفاتها!! وتستقي ذلك في الكثير مما يحيط بها بين عشرات القنوات، ومئات المواقع، وآلاف المشاهد، وغياب الرقابة العائلية وتقزيمها..

أفاقت على ابتسامة النادل وهو ينحني لها ليسمعها أكثر؛ فقد كان صوت الموسيقى عاليًا! وهو يريد أن يدوّن طلباتها اللذيذة، لكن سوسو رفعت سماعة الهاتف؛ لتجيب عن اتصال نوال التي كانت تشهق، ولا تستطيع حتى أن تأسف لعدم حضورها. بالكاد فهمت منها أن هذا الخطيب الثالث خلال شهرين الذي ينسحب من خطبتها.. قالت وقد تقطع قلبها: يريد زوجة تتغطى!!

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org