شاهد بالصور .."سبق" ترصد قصة قافلة الحج الشامي عبر العصور
بعد انتصار المسلمين على البيزنطيين في موقعة اليرموك عام 15 هـ / 636م، ودخول الإسلام إلى بلاد الشام، اتخذت الدولة الأموية من دمشق عاصمة لها، وبعدها توالت الفتوحات الإسلامية نحو مناطق جديدة وصلت إلى حدود الصين في الشرق.
ولتحقيق ركن الإسلام الخامس (الحج) اهتمت الدول الإسلامية المتعاقبة بهذا الفريضة التي فرضها الله - عزّ وجلّ - على الناس مَن استطاع إليه سبيلاً، ولهذا نُظمت في كل عام قوافل الحجيج (المحامل)، من كل أصقاع البلاد الإسلامية.
وفي هذا السياق حرصت الدولة السعودية منذ تأسيسها حتى الوقت الحاضر ووفق رسالتها السامية #السعودية_ترحب_بالعالم (3) على الاهتمام بطرق الحج ومنها الطريق الشامي، فرمّمت المساجد القديمة، وحفرت الآبار وأصلحت البركة القديمة، ومدّت الطرق للتيسير على الحجاج، ونظّمت الحدود وبسطت الأمن، وبنت الاستراحات والمنازل وغيرها من الخدمات الجليلة التي قدّمها ملوك السعودية لخدمة حجاج بيت الله الحرام.
الدكتور أنور الجازي؛ الأستاذ في جامعة الحسين بن طلال في الأردن يروي لـ "سبق"، أهم هذه القوافل وأشهرها التي يأتي من بينها (قافلة أو محمل الحج الشامي) الذي كان يضم إضافة إلى حجاج بلاد الشام، الحجاج القادمين من بلاد الأناضول وخراسان، والسند وباكستان وغيرها من بلاد الإسلام.
يقول الدكتور الجازي: "كانت محطة التجمّع الرئيسة هي مدينة دمشق حاضرة الشام، ولهذا سُمي بالمحمل الشامي، وخلال العهود الإسلامية المختلفة من الأموية حتى العثمانية كانت قوافل الحج الشامي تنطلق من دمشق إلى مكة المكرّمة في رحلة طويلة تبلغ مسافتها أكثر من 1600 كلم عبر الطريق الذي اشتُهر باسم طريق الحج الشامي، أو الطريق التبوكية؛ لكونه يمر بمدينة تبوك المحطة المهمة من محطاته الكثيرة.
وأضاف "الجازي"؛ أن وسيلة النقل الرئيسة كانت في ذلك الوقت هي الإبل واستمرت حتى اختراع القاطرات والسيارات، مشيراً إلى أنه في دمشق كان الحجاج يجهّزون ما يلزمهم من الحاجات الأساسية من مأكل ومشرب وملبس لتعينهم على تحمُّل رحلة الحج التي كانت تستمر أشهراً عدة ذهاباً وإياباً، وازدهرت التجارة في دمشق مركز تجمّع وانطلاق الحجاج، من خلال تبادل السلع مع مناطق العالم الإسلامي الأخرى، كما استفادت كل المدن والمحطات التي تقع على طول طريق الحج الشامي.
وبيّن الدكتور "يبدأ طريق الحج الشامي الذي تتخذه القوافل مساراً لها من مدينة دمشق متجهاً نحو الجنوب ليعبر عديداً من المدن والمحطات إلى أن يصل مكة المكرّمة، ومن أهمها، مدن: بصرى، المفرق، معان، تبوك والعُلا، وسلكت قافلة الحج الشامي الطريق الذي تتوافر فيه عيون المياه، والأكثر أماناً وهو الطريق الذي يمر بالبلدات والقرى العامرة، أما المناطق الخالية من العمران التي كان يسلكها الطريق فقد اهتم الخلفاء المسلمون من عهد الدولة الأموية حتى العثمانية، بتوفير منشآت الحراسة وبرك المياه والآبار فيها، وتزخر المصادر التاريخية بهذه المنجزات.
وتابع "في خلافة عبدالملك بن مروان؛ اهتم بطرق الحج بشكل عام، وأمر في أحد الأعوام بإصلاحات كبيرة بسبب الأمطار التي ألحقت ضرراً بالحجاج، ووزع الأموال على القرى المجاورة لمكة، وكذلك اهتم الخليفة الوليد بن عبد الملك؛ بطريق الحج الشامي، وحج في عام 91 هـ، عبر هذا الطريق، وكان يوزّع الأموال والدقيق على القبائل والقرى المجاورة للطريق، وأمر بحفر بعض الآبار في المناطق الخالية من المياه، وكان الخليفة الوليد بن يزيد؛ يقيم بأرض زيزياء (إحدى محطات طريق الحج الشامي جنوبي عمّان) وفيها كان يطعم الحجاج العائدين من مكة المكرّمة لثلاثة أيام.
وواصل: اهتم بعض خلفاء الدولة العباسية بطريق الحج الشامي، حيث أمر الخليفة أبو العباس؛ بتمهيد الطريق وحفر آبار المياه لسقاية الحجاج، وحج الخليفة أبو جعفر المنصور؛ بالناس سنة 137هـ، وفي رحلة الإياب من مكة المكرّمة عاد وهو يتقدم قوافل الحج الشامي وأمر بإصلاح الطريق وبناء المساجد فيه، وإنشاء المحطات المخصّصة لاستقبال الحجيج، وواصل العودة مع الركب الشامي حتى دخل بيت المقدس، ثم غادر إلى العراق، وواصل الخلفاء العباسيون مثل الخليفة المهدي؛ هارون الرشيد؛ والمأمون؛ الاهتمام بطريق الحج الشامي وذلك بإنشاء محطات البريد والمصانع وتجديد الأميال وحفر الركايا (الآبار)، وإصلاح البرك القديمة، وكذلك فعل مَن بعدهم الزنكيون والأيوبيون.
وأضاف الدكتور الجازي: أما في عهد المماليك فتوسعت خدمات الحجيج حيث كان يرافق قوافل الحج أصحاب الحرف والصنائع، والأطباء والمجبّرون، وتوفير الأدوية والخدمات العلاجية والأدلاء، والأئمة والمؤذنين، وحرص المماليك على إصلاح الطرق وإزالة العقبات وتوسيع الممرات وحفر الآبار في الأماكن العطشى.
وتابع: في العهد العثماني أصبحت قافلة الحج الشامي أكثر تنظيماً نظراً لازدياد عدد الحجاج الذي تقدره بعض المصادر ما بين 40 - 60 ألف حاج في كل عام، وكان يتم استئجار الإبل من القبائل البدوية، وكانت ترافق قافلة الحج قوات عسكرية للحراسة والمكاتيب الخاصّة من السلطان إلى أمير مكة، وصناديق الإحسان إلى الفقراء والخلع والكساوي، إضافة إلى الأعطيات والمساعدات التي عُرفت بـ (دفتر الصُرة)، وبنى العثمانيون المنازل والقلاع والخانات والبرك والآبار على طول طريق الحج الشامي، وصولاً إلى مد سكة الحديد مطلع القرن العشرين.
واستطرد الجازي: يدخل طريق الحج الشامي حدود المملكة العربية السعودية في منطقة حالة عمار، ويمر بمحطات عدة؛ منها: تبوك، الأخيضر، الحجر، العُلا، والمدينة، وغيرها، ونالت هذه المحطات نصيباً وافراً من الاهتمام عبر الفترات الإسلامية المتعاقبة، وكانت مدينة تبوك من أهم هذه المحطات نظراً لموقعها المتوسط في منتصف الطريق تقريباً وأهميتها التاريخية، ووفرة المياه والآبار والبساتين فيها، ونجد في المصادر الإسلامية وصفاً مهماً لتبوك يرسم لنا ما كانت عليه المدينة من السعة والغنى، فقد زارها الرحالة ابن بطوطة عام (727هـ) ووصف غزارة عين الماء فيها، والنخيل، ومما يدلل على أهمية تبوك ووقوعها في منتصف الطريق، أن قافلة الحج الشامي كانت تقيم فيها أربعة أيام للراحة وإرواء الجمال والتزوّد بالماء استعداداً للمسافة الطويلة بينها وبين العُلا.
ونوّه الجازي؛ بوصف الصالحي الدمشقي؛ منتصف القرن 11 هجري لتبوك بقوله: ".... وتبوك، فيها قلعة حصينة وبئر عظيمة، وبركة عظيمة، وفيها ليمون وأشجار، وهي منتصف الطريق".
ويذكر الخياري المدني (1080 هـ) تبوك: "أشرفنا على تبوك المنزل المبارك، وشاهدنا قلعتها المبيضة، ورأينا أهل الشام الواردين عليها للملاقاة مع ما معهم من الأمتعة والأسباب التي تُعد للبس والكسوة، وما يناسب ذلك من الأزواد وأنواع الحلوى ....".
ويمتدح حاجي خليفة؛ عام (1145هـ) تبوك من بين محال الحجاج لكثرة نخيلها ومائها.