كانت رحلة الخطوط السنغافورية المتجهة من سنغافورة إلى زيورخ تقترب من شرقي طريف، بعد أن عبرت أجواء الجبيل وحفر الباطن ثم رفحاء فعرعر، بموازاة الحدود الشمالية، وهي تحلق على ارتفاع 40 ألف قدم. في المقابل، تـقـترب رحلة الخطوط الإثيوبية من جنوب طريف وهي تطير بين أديس أبابا وإسطنبول، بعد أن عبرت أجواء المنطقة الغربية فالمدينة ثم الحليفة، محلقة بموازاة البحر الأحمر على ارتفاع 40 ألف قدم أيضًا.
في هذه الأثناء لا يكف "المراقب الجوي" سعيد السوندي عن الكلام منهمكًا في ترتيب الحركة الجوية بالقطاع الشمالي، وتنظيم الطائرات؛ كي تمر من المخرج المحدد (طريف)؛ إذ يتم تحويلها إلى مركز المراقبة الأردني في عمّان وفق قوانين الطيران الدولية التي تشترط وجود فاصل محدد بين الطائرات، سواء كان الفاصل بالارتفاع، أو المسافة، أو الزمن. ولكل عامل من هذه العوامل شروط، تراعي نوع الطائرة، وسرعتها، والطريق الذي تطير عليه.
كان سعيد يجري عمليات حسابية سريعة؛ كي لا تلتقي الطائرتان على الارتفاع نفسه، بالمكان ذاته، بعد نصف ساعة. والصعوبة تكمن في أنه تحت الطائرتين ووراءهما وأمامهما العديد من الطائرات التي تحلق على الارتفاع نفسه، وعلى ارتفاعات مختلفة (38 ألف قدم، و36 ألف قدم.. الخ)؛ إذ إن "الارتفاعات الزوجية" تُعطَى للطائرات المتجهة من الشرق للغرب أو من الجنوب للشمال، بينما "الارتفاعات الفردية" تُمنح للمتجهة من الغرب للشرق أو من الشمال للجنوب.
هذه حركة بسيطة بالنسبة لسعيد، الذي سيتجه تفكيره بعد قليل لحركة تعارض أخرى، ستكون في سماء حائل بين طائرة الخطوط الكويتية المتجهة من القاهرة إلى الكويت، وطائرة لوفتهانزا المتجهة من فرانكفورت للرياض، وكلتا الطائرتين على ارتفاع 37 ألف قدم. عليه أن يكون حذرًا في تغيير ارتفاع إحداهما؛ فهناك بعض السُّحب الرعدية النشطة التي قد لا تسمح للكابتن بتغيير ارتفاعه في الوقت المناسب، أو ربما تستدعي تغيير اتجاهه؛ ما يعني الوقوع في تعارض آخر!
أيضًا، ستلتقي قرب تبوك رحلة الخطوط الأردنية المتجهة من جدة إلى عمان برحلة الخطوط المصرية المتجهة من غوانزو الصينية للقاهرة، وكلتاهما على ارتفاع 36 ألف قدم. لا بد من حل قبل تحويل الطائرة لمركز القاهرة، وكل حل يؤثر بالحلول الأخرى في متوالية من العمليات الذهنية التي لا تنقطع، تمامًا كالحركة الجوية التي تتدفق باستمرار من كل الجهات؛ لتشكل حركات تعارض متغيرة، مثل تشكيلات السُّحب.
يقوم "المراقب الجوي" بحل هذه التشابكات تلقائيًّا على مدار الدقيقة في كل المواقع، وهو يحفظ تفاصيل المنطقة التي يعمل عليها: أسماء الطرق، مواقع منارات الأجهزة الملاحية، النقاط التي تقع على امتداد كل طريق، والتقاطعات بزواياها.. ولو تعطلت أجهزة الرادار فسوف ينظِّم الحركة عن طريق التواصل الصوتي مع الطيارين؛ لأنه يحفظ كل التفاصيل، كمن يسير في بيته عند انطفاء الكهرباء.
على بُعد مترين من سعيد ينشغل تركي القرشي بتنظيم حركة القطاع الشرقي، وبينهما تواصل وتنسيق دائم؛ فرحلة الخطوط الإماراتية المتجهة من ساوباولو البرازيلية إلى دبي سوف تلتقي فوق القصيم بعد نصف ساعة برحلة البريطانية المتجهة من لندن للرياض، والسريلانكية المتجهة من كولومبو إلى روما ستلحق بالإيطالية المتجهة من أبوظبي إلى ميلان، والطائرة الباكستانية المتجهة من المدينة لكراتشي ستلتقي بالقطرية القادمة من باريس للدوحة.. وهكذا تنهمر المتواليات، عشرات الشركات الناقلة بين مئات المدن تملأ السماء، وتنتظم في خيط من الكلام المليء بعُقَد التعليمات!
والمشاهد ذاتها تتكرر في بقية القطاعات الغربية والجنوبية والوسطى.. هذا هو عمل المراقب الجوي الذي يعمل على مراقبة المنطقة؛ إذ المسافات الممتدة، و"الرتم" الأقل لحركة التعارض، والتكتيك الذي نادرًا ما يستخدم عامل السرعة، اللهم إلا ما يقاس منها بسرعة الصوت (ماك سبيد).
بالقرب من سعيد وتركي يجلس أحمد الزهراني، الذي يعمل على موقع الاقتراب الآلي بالرياض (الأبروش)، وهو قسم وسط بين قسم مراقبة المنطقة الذي تمتد مسؤوليته لمسافات طويلة، وقسم برج المراقبة الذي تقتصر مسؤوليته على حركة الإقلاع والهبوط وحركة الطائرات على الأرض.
موقع الأبروش يختلف قليلاً؛ فهو غالبًا يتمثل في دائرة يتفاوت طول قطرها من مكان لآخر، ووسطها مطار أو أكثر، تتدفق الطائرات عليه من كل الاتجاهات، من الشرق والغرب والشمال والجنوب، وتتعارض الطائرات القادمة مع العابرة والمغادرة؛ إذ إن القادمة من كل صوب إلى المطار تحتاج إلى النزول، وهي تلتقي بطائرات تغادر المطار؛ وتحتاج للارتفاع والانطلاق إلى مختلف الجهات؛ لذلك نسبة التعارض تكون كبيرة جدًّا في مساحة صغيرة، وهناك قوانين دقيقة للفصل، لا بد أن تُطبَّق.. هذه هي مهمة المراقب الجوي الذي لا يكف عن إعطاء التعليمات للطيارين من تغيير اتجاه وسرعة وارتفاع، قبل أن يحول كل طائرة للبرج وهي تحت 5 آلاف قدم، وعلى بُعد عشرة أميال من المدرج، مع وجود فاصل مسافة محددة بينها وبين ما قبلها وما بعدها.
ويوجد في السعودية مواقع عدة لقسم الاقتراب الآلي بالرياض وجدة والدمام والمدينة، يتكامل عملها باستمرار مع القسمين الآخرين من أقسام المراقبة (البرج ومراقبة المنطقة).
يوجد في السعودية أكثر من 600 مراقب جوي، بذلت الهيئة العامة للطيران المدني – وما زالت - جهودًا كبيرة في تعليمهم وتدريبهم ومنحهم المميزات، وتهيئة البيئة المناسبة لهم، وتأمين أحدث الأجهزة التي تيسِّر مهمتهم في تأمين الحركة الجوية؛ إذ تُعدُّ مهنة المراقبة الجوية من أكثر الأعمال التي تنطوي على مقدار كبير من الضغوط النفسية في جميع أنحاء العالم؛ فالخطأ أو السهو ممنوع، إضافة لطبيعة عمل المناوبات المرهقة.
هؤلاء الجنود المجهولون يحتفلون اليوم باليوم العالمي للمراقبة الجوية، الذي يصادف الـ20 من أكتوبر؛ إذ تحتفي به صناعة الطيران في العالم كله؛ لاستذكار أهمية الدور الذي يقومون به، وإبداء التقدير لهم.
إن حركة المسافرين في السماء تنتظم على مدار اللحظة عبر خيوط من الكلام الذي تنسجه عقول رجال على الأرض، يمتلئ بأصواتهم الفضاء.
• كل عام والمراقبون الجويون بخير.. والوطن بجميع مكوناته في أمن وازدهار.