معظمنا تابع بشكل دقيق فاجعة مستشفى جازان، التي أودت بحياة ٢٥ نفساً، وأصابت ١٢٣ آخرين. وقد جاءت كنتيجة طبيعية للإهمال وصم الآذان عن سماع الشكاوى والتقارير، وآخرها تقييم المركز السعودي لاعتماد المنشآت الصحية "سباهي"؛ إذ فشل مستشفى جازان العام - بشكل خاص - بعد أن خضع للتقييم منذ سبتمبر ٢٠١٣م، كما أن أقسام المستشفى كافة كانت غير مطابقة لمواصفات السلامة.
حقيقة، لا أجد جديداً فيما حدث، أو دعوني أقول لم أُفاجَأ بما حدث؛ فمعظم مستشفيات وزارة الصحة - وخصوصاً تلك التي تقبع في المدن الصغيرة - هي قنابل موقوتة من حيث الخدمات وشروط السلامة. ووزارة الصحة – للأسف - لم توفَّق حتى الآن في الأخذ بنظام إدارة الجودة الشاملة، وهو نظام إداري عالمي معروف، من شأنه إقرار مبدأ جودة الخدمات إلزاماً على جميع العاملين في المنشأة أو الهيئة أو الوزارة، وضمان استمرار منهجية التحسين المستمر المبني على مراجعات وتقييمات الوضع الراهن للمنشأة، وضمان الارتقاء بمستوى العاملين فيها؛ لمواكبة متطلبات المرحلة الراهنة، بحيث يتم إشاعة مصطلح الجودة، ودمجه ضمن مصطلحات وثقافة النظم الإدارية للمنشآت.
والتقارير تشير إلى فشل معظم مستشفيات جازان أمام تقييم المركز السعودي لاعتماد المنشآت الصحية "سباهي"، بما يشي بأن الفاجعة مرشحة للوقوع في مستشفى آخر في أية لحظة.
ولنقُلْها بصراحة تامة: هناك ترهل كبير في الأخذ بالمواصفات العالمية في معظم مستشفياتنا العامة والخاصة، وكذلك غالبية المستوصفات الخاصة. ولا يحتاج الأمر إلى بذل جهد كبير؛ فالأمر ملحوظ، ويمكن أن تراه العين المجردة، بل إن هناك قنبلة موقوتة أخرى، أتمنى على الوزارة التحقق منها قبل اكتشاف كارثة نحن في غنى عنها، ألا وهي النفايات الطبية، وكيفية التخلص منها. سؤال كبير أطرحه أمام المسؤولين في وزارة الصحة: تُرى، كيف تتم عملية نقل هذه النفايات؟ وتحت أية ظروف؟ وكيف يتم التخلص منها؟؟
وأعود لموضوعنا الرئيس، وأقول: لماذا تعاني وزارة الصحة الكثير، ومنذ عقود، في موضوع توفير الخدمة الصحية للمواطن بشكل صحيح، رغم توافر الميزانيات التي تمكّن الوزارة من توفير تلك الخدمات؛ بدليل لم تشتكِ الوزارة من قصور في موضوع الميزانيات المعتمدة؟
إن الأمر يتعلق بنقص الكوادر المؤهَّلة التي يمكنها أن تشرف على إدارة هذه المستشفيات، وتضمن أن تكون أولوية عملها هو رضا المواطن من الخدمة الصحية التي تقدَّم له، وتفعيل دور الأطباء بشكل جدي، بدلاً من الوضع القائم الذي يتيح للطبيب أو الطبيبة أن يعمل أياماً محددة، وعندما يحضر تجده لا يكشف إلا على عدد بسيط من المرضى. وما أكثر المؤتمرات العلمية التي يحضرها هؤلاء الأطباء، وتكون هي السبب وراء غيابهم، وبدون البديل. مجرد رسالة تصل على جوالك تخبرك بأن موعدك جرى تأجيله لظروف الطبيب، وما عليك إلا الانتظار؛ فالبديل معدوم. والأدهى والأمرّ من هذا كله أن ليس للمراجع المريض الحق في الاعتراض، ولو اعترض فسيجد نفسه يدخل في دهاليز من الإجراءات لا نهاية لها، وستنتهي في الغالب دون الحصول على نتيجة. هذا إذا لم يزهد فيها مكرهاً، ويقرر الانسحاب حفظاً لكرامته.
والشيء نفسه ينطبق على الالتزام بشروط السلامة والتعقيم في معظم المنشآت الصحية العامة والخاصة، فأين هي تلك الشروط؟ فمعظم عيادات الأطباء تعاني أجهزة التكييف، وتوافر الإضاءة اللازمة، بل إن معظم التمديدات الكهربائية تجدها ظاهرة للعيان، ومستوى النظافة يعكس الطريقة التي تدار بها هذه المنشآت، ومن ثم لا تجد نظاماً يحاسب من يقصر؛ والسبب ببساطة: من أجل أن تعاقب يجب أن يكون هناك قصور، ولكن من يكتشف القصور؟ وهنا تكمن المشكلة الحقيقية، فالمعني بتتبع سير الإجراءات الأمنية وإجراءات الأمن والسلامة غائب عن المشهد، ولا تعرف من هو في جميع مستشفياتنا. ولو أن هذا المسؤول الذي حمل الأمانة، ولم يؤدها بنزاهة وأمانة، عوقب وأوقف عند حده لاعتبر غيره. ويبدو أن هناك غياباً تاماً لنظام يحكم العقوبات في وزارة الصحة؛ هو ما جعل المشاكل تتوالى وتتنوع. ومن يتعامل مع المديريات الصحية عن قرب يلحظ غياب النظام لأول وهلة، بل إن هناك قرى لم تصلها الخدمات الصحية منذ عقود، وأقرب مركز وليس مستشفى لا يقل بعده عن عشرين إلى أربعين كيلومتراً. ولكم أن تتخيلوا حالة امرأة في حالة طلق ولادة، وتقطع هذه المسافة عبر طرق وعرة. فقط تخيَّلوا حالها. تُرى مَن المسؤول عنها؟
ما ذكرتُ يقودنا إلى نتيجة حتمية، لا ينبغي أن تتأخر كثيراً، وخصوصاً أن الموقف يتدهور يوماً بعد آخر إدارياً وطبياً؛ فلا بد أن تتجه وزارة الصحة إلى التخصيص؛ فقد اتسع الشق على الراقع، كما اتسع في يوم سابق على وزارة البرق والبريد والهاتف، فها نحن اليوم بعد أن خصصت هذه الوزارة تحت مسمى "شركة الاتصالات السعودية"، وبعد سنين عجاف، أصبحنا ننعم بخدمات مميزة، وبمرونة عالية، لا يمكن مقارنتها بالكابوس الذي كنا نعيشه.
لقد كنا جميعاً ننتظر من جميع الوزراء الذين تعاقبوا على هذه الوزارة مؤخراً البت في موضوع التأمين الصحي؛ لكي يرفع عن كاهل الوزارة العبء الكبير المتمثل في توفير الرعاية الطبية المثلى كما هو الحال في جميع الدول التي تأخذ بنظام التأمين الطبي، ووضع القوانين التي تكفل لنظام التأمين أن لا يصبح مجالاً لابتزاز أو تهرب من قِبل المعنيين به، كما هو الحال في تأمين المركبات، وهذا يتطلب الوقوف على التجارب العلمية، واستقطاب آراء وتجارب بيوت الخبرة في هذا المجال، ولكن لا أرى أياً من هذه الجهود قد بُذل على الأقل من خلال متابعة ما ينشر في وسائل الإعلام كافة من أخبار عن الوزارة وأنشطتها، فضلاً عن تأخر كبير في مجال استقطاب كفاءات سعودية شابة في مجال التمريض والتخصصات الفنية المساعدة كالتحاليل والأشعة والعلاج الطبيعي، والتأهيل الطبي، بل إن هناك الكثير من المناشدات اليومية من خريجين بتخصصات طبية ولم تتح لهم فرصة العمل في المستشفيات العامة رغم أن حجم التعاقدات من خارج السعودية لا يزال يمثل نسبة لا يستهان بها. وأعود فأكرر: لنضع نظاماً صارماً لمن يريد أن يعمل من خلال إتاحة الفرصة كاملة لكل مواطن يجد في نفسه التأهيل والرغبة في العمل، ولكن لتكن الوظيفة تعاقدية، بمعنى إن لم يقدم الفني أو الممرض من الجنسين ما يشفع له ببقائه في الوظيفة سيُستغنى عنه، ويحل محله من هو أهلٌ للوظيفة. وهذا ما هو مطبق في جميع الدول المتقدمة. الوظيفة ليست ملكاً للشخص، بل هي مسؤولية ملقاة على عاتقه، وأمانة مدفوعة الثمن، ويجب أن تؤدى كما ينبغي، وعلى أكمل وجه، وبكل أريحية، وإلا فالبقاء للأصلح.
إن للمملكة تجربة فريدة وناجحة مع العديد من الشركات الطبية التي أدارت بكفاءة عالية العديد من المستشفيات الكبرى في السعودية في الثمانينيات الميلادية، وكانت - بحق - إدارة ناجحة بكل المقاييس، ولكن من خلال الانضباط والحزم وتطبيق مبدأ البقاء للأصلح، وفعلاً كانت تجارب ناصعة ومثمرة، وشكلت نقلة كبيرة في الخدمة الطبية المقدمة للمواطن لدرجة أوصلت السعودية للعالمية في مجالات طبية عدة، وساهمت في رفع مستوى وخبرة الطبيب والفني الطبي والإداري السعودي. فعلى سبيل المثال، وفي مجال طب العيون، صنف مستشفى الملك خالد التخصصي للعيون على مستوى العالم في طب العيون في تلك الفترة، وذلك بتوفيق الله - عز وجل - وبما سُخر له من إمكانات مادية وبشرية، ثم بحسن الإدارة؛ ولذلك على وزارة الصحة أن تعيد النظر في مسألة استقطاب بيوت خبرة وشركات طبية ذات خبرة وباع طويل، وسبق لها العمل في السعودية. وليس في ذلك ما يعيب، بل هو الحل الأمثل للتغلب على ظاهرة التكدس الوظيفي بدون نتائج، الذي تعانيه الوزارة في مجال الإدارة، وفرصة للشباب السعودي أن يستفيدوا من الاحتكاك بالخبرات ذات الباع الطويل في الإدارة والطب؛ فلا بأس بأن تغير الوزارة جلدها بطاقات شابة واعدة ومحكومة بنظام وظيفي صارم، لا يعرف الكسل، ولديه من الطموح ما يدفعه للعمل بإخلاص.. فلن يكون مؤلماً أن نستعين بخبرات من الخارج لتطوير آليات العمل بما يخدم الوطن، ولكن المؤلم أن يكون لدينا أكثر من ثلاثين جامعة بكامل تخصصاتها وكوادرها الوظيفية التي تخرجت في الغرب، ونجد أبناءنا يدرسون في الجامعات الغربية في التخصصات نفسها التي تخرج فيها أعضاء هيئة التدريس في جامعاتنا. المهم أن لا تتوقف العجلة، ولا نقف مكتوفي الأيدي؛ فالحلول موجودة متى ما توافرت الإرادة والرغبة في النجاح، بعد توفيق الله عز وجل. والله من وراء القصد.