ذلك التحدي الذي فعلته، وتلك الجرأة التي كانت عليها، والعبث الذي تمثله وتتصنعه وهي تخرج (سافرة) في شارع التحلية بالرياض مؤخرًا، كان عملاً يقول لنا الكثير، ويقدِّم لنا قراءة عميقة لفكر جيل كامل ينبت بيننا! مثيلاتها لَسْنَ قليلات، وبمختلف الأعمار والدوافع! لكنه - على أية حال - يثير تساؤلات عدة بحجم الدهشة التي تملكت العقلاء، وقرضت قلوبهم!
فما الذي يحدث؟ وإلى أين نسير؟ وهل بلغ بنا تقليد المجتمعات حد استنساخ أخطائها، وارتكابها بدم بارد؟!
لا تقولوا العباءة لا تدل بالضرورة على خُلق مرتديتها الحسن، وربما الكاشفة أفضل من متسترة بالدِّين.. أقول لا تركبوا السيارات إذن؛ فهي وإن كانت تريحكم وتوصلكم سريعًا قد تصبح قاتلة لكم حين تكون بيد العابثين!!
ثم أي عدالة حين يحق لفرنسا منع الحجاب وتعطي الحق من قِبل حتى المسلمين؟ فهذه دولتهم، ولهم الحرية في وضع قوانينهم الخاصة وتطبيقها، وهم يدفعهم حفظ الهوية الثقافية والقيم الاجتماعية فحسب! ثم ألا يحق لنا أن نطبّق أمر ربنا تبارك وتعالى؟
تلك الفتاة تدفعنا إلى أن نعترف بأن مجتمعنا في خطر بعد هذا الانفتاح الكبير الذي نعيشه ونحن نطل على عوالم أخرى، أو هي تطل علينا. ولا يعني ذلك تزكية مجتمعنا (قبلاً)؛ ففيه من المغالطات ما كان يستحق وقفة كبيرة من الجميع، خاصة من ذوي العلم والخبرة، حتى أن عبارة (مجتمعنا له خصوصيته) لم تعد تعطي معناها تمامًا، ولا تدل على مرحلته الآن؛ فقد ظهرت خصوصيات كثيرة، ونتأت، ودخلت علينا، منها كثير صالح، وكثير منها طالح.. تلفتوا حولكم (بالقياس على التقليل من أهمية الستر والحجاب وتحجيمه في خانة العادات والتقاليد وليس عبادة أمرنا الله تعالى بها ويحاسبنا على تركها) فما أكثر المتبرجات حتى مع العباءة؟ مناظر لم نكن لنراها قبلاً، ليس مجرد وجوه نساء تظهر، بل بكامل تبرجها وزينتها، ولَسْنَ وحدهن، بل رجالهن بجانبهن!! وكأنهم يقولون "لم نعد نغار فعلاً"! ولا أحد يصدق أن هذا هو الصغير الذي كان يبكي قهرًا حين يعرف زميله اسم أمه أو أخته!
نحن بين جيلين بينهما تناقض خطير، وفجوة كبيرة، بين ماضٍ كانت فيه معايب كثيرة، تخص البنت وحدها (بحكم العادات وليس الدين) بين بنات يُعضلن، وأمهات يُحرمن من أطفالهن، ووارثات يُحرمن من ميراثهن، وحرمان من أحلام صغيرة للولد أن يتلذذ بها دون البنت! بين محاكم لا تنصف، وسنوات من الركض لانتزاع بعض الحقوق التي أقرها الإسلام، وشدَّد عليها، بين ثقافة العيب (ولا تفشلينا)، (والناس ماذا سيقولون)، (وتغطي لا يعرفك أحد).. وبين هذا الانفلات الكبير المفاجئ، والمطالبة بإسقاط الولاية التي تعتبر حماية وحنانًا (لا حدَّ له) من أب مشفق، أو زوج كريم، قبل أن تكون قهرًا من ذكر على أنثى.. وتكون العباءة رمز الستر والتحجب والأمر الإلهي مجرد عادة تنتزع حين يضعف الإيمان، وتضعف غيرة الرجل (أب أو زوج أو أخ!!)..
بين التي تبقى تحت جناح والديها حتى يسلماها للزوج المفترض، والبنت التي ربتها الصديقة التي تخرج معها للمطاعم والأسواق، وتغلق غرفتها لتطوف العالم كله بين جوال وكمبيوتر وقنوات لا حصر لها، ثم ترى أن الستر الذي هو حماية لها وللمجتمع صار قيدًا لا بد أن تتفلت منه!!
فتاة التحلية تقول لنا بفعلتها إننا على خطأ، وخطأ كبير في تربية أبناء وبنات هذا الجيل على مستوى الأسرة والوالدين والمدرسة والمجتمع ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وكل ما يمكن أو يؤثر على الأبناء، ويجعلهم إما صالحين أو طالحين!
المرأة هي العنصر الأضعف والأسهل في كل المجتمعات لتنفيذ ما يراد تنفيذه! لكن عندما تُربَّى الفتاة باقتناع، وترى القدوة الصالحة، ستكون أقوى وأقدر على المواجهة مع دعم ومراقبة الأهل.
ثم لماذا لا نستفيد من تجارب الآخرين، خاصة الذين نُدفع للاقتداء بهم، ويتشدق بتكريمهم للمرأة ونيلها كامل حقوقها؟!
في أمريكا مثلاً ما أكثر اللاتي قُلْن لي بحسرة، وقلوبهن تتفطر، وبمختلف الأعمار والمستويات الاجتماعية والعمرية، إن مجتمعنا لم يكن بهذا السوء؛ هذا كثير علينا.. "نحن نعيش ويلات الحرية المفرطة بين مراهقات مستغلات، وأمهات صغيرات تورطن بأطفال وهن في عمر الزهور، وأمهات وحيدات تركهن الأصدقاء أو الأزواج الذين لم يبرموا عقودًا؛ حتى يتنصلوا من مسؤولية الأطفال، وبين العاملات طيلة اليوم وبأجور أقل!! بين كثرة اللقطاء، والأمراض النفسية والاكتئاب.. وقد سقطت الأسرة الطبيعية، وظهرت الأُسر الشاذة.. وبين سيطرة حياة اللهو والمتعة بكل شيء، وغيرها كثير"..
لا تقولوا نحن لسنا مثلهم؛ فما مر علينا قد مر عليهم من تدرج وتبدُّل في القيم والحريات! وضياع قيمة الرجولة والكرامة!!
الحديث طويل، والدروس كثيرة في هذا الشأن، لكن لعل من أهم ما قالته لنا تلك الفتاة: "إن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد أن تعود لصلاحياتها الأولى، ويُدرَّب عناصرها أكثر، ويُدعموا بشرطة خاصة لهم، ربما على غرار شرطة الآداب في معظم بلاد العالم". حفظ الله بلادنا وبلاد المسلمين، وزادهم تعاونًا على البر والتقوى.