تصوير: عبدالملك سرور: في مدينة "بندا آتشيه" عاصمة إقليم آتشيه في إندونيسيا لا يمكن لأي زائر تفويت زيارة مسجد (رايا بيت الرحمن)، الذي يقع في قلب مدينة بندا آتشيه في إقليم آتشيه الإندونيسي.
هذا المسجد العظيم هو – بحق - لوحة معمارية رائعة.. وإضافة لقيمته الدينية والتاريخية يمثل أيضًا رمزًا دينيًّا وثقافيًّا، كما أنه شعار للقوة والنضال للشعب الآتشي. وقد أُنشئ المسجد على يد السلطان الآتشي الشهير إسكندر مودا عام 1022 هجريًّا (1612م)؛ وعمره الآن يفوق أربعة قرون.
تاريخ عريق:
في التاريخ تعرض المسجد لاشتعال كامل بالنار حينما هاجم الاستعمار الهولندي أراضي إقليم آتشيه خلال عدوانه الثاني في إبريل 1873م. غير أن إدارة الاستعمار في منتصف شهر صفر عام 1294هجريًّا (مارس 1877) – أي بعد أربع سنوات من الاشتعال - وعدت بإعادة بناء المسجد تخفيفًا من مقاومة المجاهدين الآتشيين الذين وصلت درجة غضبهم إلى ذروتها إثر اشتعال المسجد؛ لما له من مكانة خاصة لديهم؛ فأُعيد بناؤه بدءًا من 1879م، واستغرقت عملية إعادة البناء نحو 3 سنوات.
وحظي هذا المسجد من وقتها بعناية بالغة، انعكست بالعديد من التوسعات والترميمات التي أُجريت له على مدار السنين المختلفة.
وفي عام 1991م شهد المسجد توسعة أكبر، أشرف عليها د. إبراهيم حسن، محافظ إقليم آتشيه آنذاك، وهي عملية شملت توسعة أرضية المسجد، وتزويدها برخام من إيطاليا، فضلاً عن إنشاء المكتبة وغرفة الضيوف والمكاتب والقاعة ومكان الوضوء. كما شملت العملية ساحته الخارجية من بناء الحديقة وموقف السيارات، فضلاً عن بناء مئذنة رئيسية. ومع هذه التوسعة وصلت مساحة المسجد إلى 4760 مترًا مربعًا؛ لتصل سعته إلى 9000 مُصَلٍّ، وسبع قباب، وأربع مآذن، ومئذنة رئيسية.
صمود أمام التسونامي:
وبالرغم من الحماسة الدينية لدى الأهالي فإن صمود المسجد أمام التسونامي والزلازل عزاه الخبراء – بعد إرادة الله عز وجل – إلى البناء المتين والمواد الحديثة المستخدمة في بناء هذا المسجد والمساجد الأخرى؛ إذحدثت أضرار خارجية خفيفة من جراء الزلزال الذي سبق المد البحري المدمر عام 2004م، بينما لم تحتمل منازل السكان الخشبية قوة المد البحري الهائل.
الأضرار الكبيرة جدًّا حركت الكثير من الجهود الإغاثية العالمية، وكانت المملكة العربية السعودية في صدارة الجميع بحملتها الخيرية بعد الكارثة الإنسانية. وقد شمل ذلك ترميم المرافق التابعة للمسجد، وبناء مجمع سكني لأئمة المسجد.
إقبال كبير:
"سبق" التقت كبير الأئمة البروفيسور عزمان إسماعيل، الذي كشف عن العديد من الجوانب عن المسجد، منها كيف أن المصلين في رمضان بالذات يتوافدون لأداء صلاة التراويح من أول عشرة أيام مستشعرين بركة المسجد؛ إذ بالإضافة لسعة المسجد البالغة 9000 مُصَلٍّ تصل مع الساحات لأكثر من 14 ألف مُصَلٍّ.
مضيفًا: في رمضان المبارك نستضيف العديد من القراء؛ ليؤموا الناس في صلاة التراويح. وفي هذا العامسيحل إمام مصري مقيم في ماليزيا، سوف يؤم من أول رمضان حتى الـ27. هو معار من ماليزيا. وقد اتفقنا معه، وهو - ما شاء الله - يقرأ كأئمة الحرم، ويقلدهم، وصوته جميل جدًّا. فنشعر بروحانية الحرم هكذا يشعر الجميع".
شروط الاختيار للأئمة:
ويكشف د. عزمان عن الشروط المطلوبة لمن يتم تعيينه إمامًا ضمن الأئمة السبعة للمسجد بأنه يجب أولاً أن يكون حافظًا كتاب الله الكريم كاملاً، ثم يخضع لاختبار، وقد يُرفض أو يُجاز. والأئمة يحظون بالعديد من الامتيازات. وبالمناسبة هنا يسعدني أن أقدم الشكر لحكومة المملكة العربية السعودية؛ فقد بنت بيوتًا للأئمة قريبة من المسجد بعد التسونامي مباشرة، كما رممت المسجد.
مظلات الساحات النبوية:
وإشارة إلى الترميم الحالي، ووجود مظلات شبيهة بمظلات ساحات المسجد النبوي الشريف في المدينة، يبتسم د. عزمان، ويقول: الترميمات الحالية يقوم بها المحافظ. انظر كأنك في الحرم المدني. "آتشيه" تسمى "شرفة مكة"، وهي أول منطقة دخلها الإسلام، وانتشر منها. أما فكرة المظلات فقد ذهب المحافظ - جزاه الله خيرًا - بنفسه إلى المدينة المنورة، وأعجبته الفكرة؛ فنفَّذها هنا عن طريق شركة جاءت من جاكرتا.
سر الأذكار الجماعية:
"سبق" استفسرت عن الأذكار الجماعية التي تقام بعد الصلوات؛ فأكد الشيخ عزمان: نقرأ الأذكار بعد الصلوات بشكل جماعي لحكمة، هي مساعدة من لا يجيد اللغة العربية؛ ليقرأ الأذكار معنا.
ويشير د. عزمان إلى أبرز من زاروا المسجد، ومنهم السفير السعودي. وتابع: وكذلك من أبرز الشخصيات التي زارتنا رئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير. نتمنى حقًّا أن يزورنا الملك سلمان، ولكن مؤكد هناك ارتباطات كبيرة. بالتأكيد نريد أن نرى وجهه الكريم فقط.
وقف آتشي بمكة المكرمة:
ويكشف د. عزمان عن وجود لـ(الآتشيين) في مكة المكرمة: "الآتشيون موجودون في مكة؛ فهناك وقف مشهور في مكة معروف باسم (وقف حبيب بوجة آتشي)، وهو في (العزيزية). هذا الوقف قديم، وتاريخه يعودإلى قرابة 400 سنة مقابل باب الفتح. وإلى الآن ريع هذا الوقف يوزع على الحجاج (الآتشيين) سنويًّا بمعدل تقريبي 4000 ريال لكل واحد تقريبًا. وغني عن القول إن الحجاج الآتشيين نقلوا المظاهر الإسلامية والالتزام من السعودية إلى هنا".
وعن طريقة الأذان يقول: "المؤذنون هنا يؤذنون بالمقامات الحجازية أيضًا؛ إذ يقلدون المقامات المشهورة.ونحن نستمتع بذلك".
ضوابط صارمة:
من جهة ثانية، يقول سكرتير المسجد، الشيخ حمدان شمس: "لا يُسمح بأي صور تسييس في المسجد، ولا مسائل الخلافات الفكرية أو الطائفية. كما أن خطب الجمعة غير مراقبة، لكنها تُعرض على كبير الأئمة في المسجد. وعلى كل خطيب تقديم خطة لعناوين خطبه لثلاثة أشهر، وتُعرض خطبة كل أسبوع قبل موعدها بأسبوع، وتُعرض على رئيس الأئمة".
أنشطة رمضانية:
وعن أنشطة رمضان في المسجد يضيف: "للمسجد أجندة حافلة في رمضان بين المحاضرات والدروس والحلقات.. وقد حضر أئمة من مصر من الأزهر الشريف هذا العام لصلاة التراويح، ويتكفل الحاكم بنفقتهم. وهناك أيضًا إفطار صائم جماعي".
أما نظام الإفطار يقول: "غالبًا يكون خفيفًا جدًّا بعد أذان المغرب، ثم الوجبة الرئيسية بعد الصلاة. وبعد صلاة العشاء هناك محاضرات غالبًا، ثم بعد صلاة العشاء صلاة التراويح، وهي 20 ركعة، إضافة للوتر ثلاث ركعات. وبعد ذلك راحة قليلاً، ثم يقام برنامج قراءة القرآن، ثم يغلق المسجد، ويُفتح في الثانية صباحًا لمن يريد صلاة التهجد إلى صلاة الفجر، ثم بعدها محاضرة، ثم المجال مفتوح. المسجد يفتح يوميًّا 18 ساعة. في الصباح حلقات القرآن للصغار، وعددهم قرابة 800 طفل".