- إنشاء المحتوى "السخيف" أصبح وسيلة للتكسب ومهنة من لا مهنة له نحو الربح السريع
- بعض الشركات التجارية تتحمل المسؤولية بتسويق منتجاتها والإعلان في حساباتهم الهابطة
- أغلبهم يضلل المتابعين بالإعلانات المزيفة والمنتجات المقلدة غير مدركين تأثير طرحهم
- يقدِّمون نمط حياة متكلفًا ومزيفًا ويصور للمراهقين وصغار الشباب كما لو أن حياتهم الواقعية بائسة
- الكلمة والصورة أمانة.. وعلى المتابع التفريق بين الغث والثمين في وسائل التواصل الاجتماعي
قبل أيام قليلة فرضت الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع غرامة مالية بقيمة 400 ألف ريال على مشهورتَيْن من "مشاهير التواصل الاجتماعي"؛ وذلك بعد نشرهما مقطعًا مرئيًّا، تضمَّن "إساءة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لإحدى الدول الصديقة"، ثم فرضت غرامية أخرى بقيمة 400 ألف ريال على مشهورة عربية؛ زارت السعودية، وارتكبت مخالفات إعلانية؛ ليتحول أمر هؤلاء "المشاهير" رجالاً ونساء إلى جدل تجاه محتواهم وما يقدمونه.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل مدى تأثير "مشاهير التواصل الاجتماعي" على المتابعين؛ فهم يحظون بقاعدة متابعين كبيرة، ويحرصون على متابعة ومشاهدة مقاطعهم المرئية، ومشاركاتهم، ويتأثرون بمحتواهم المرئي والمكتوب، الذي لا يتوقف عند حدود الإعلانات، بل يتعدى ذلك إلى ممارسات لا تتناسب مع عادات وتقاليد المجتمع، وسجالات غير مفيدة، ومحتوى مزيف أو خادع؛ يؤثر في النشء والمراهقين.
ولا يمرُّ الآن يوم بالكاد إلا ويتكرر على مسامعنا استدعاء وزارة التجارة أحد مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي، أو توقيع غرامة عليه أو عليها من قِبل الوزارة، أو الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع؛ ما يشعرنا بحجم الكارثة والفوضى التي يعيشها ما يُطلق عليه الإعلام الجديد، الذي تتسلل مخاطره إلى البيوت ليلاً ونهارًا، عيانًا بيانًا من جهاز في حجم الكف، يقع في يد الصغير قبل الكبير!
فبعد أن غزت وسائل التواصل الاجتماعي مجتمعنا صار إنشاء المحتوى عليها وسيلة للتكسب، ومهنة من لا مهنة له؛ يمتهنها البعض نحو الربح السريع والخيالي من جراء المشاهدات الفلكية، والمتابعات المليونية، التي استدعت تهافت بعض الشركات التجارية للتسويق لمنتجاتها، والإعلان عنها عبر هؤلاء "المشاهير"؛ لضمان وصول إعلاناتهم لملايين المتابعين.
وللحصول على هؤلاء المتابعين؛ ومن ثم تسابق الشركات التجارية للإعلان، أصبحت الوصفة السحرية لدى البعض تقديم الابتذال والتفاهات، وبات البعض يمتهن "صناعة التفاهة"، وصارت وسائل التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة مرتعًا لكمٍّ هائل من الإسفاف، والمحتوى الهدام والتجاوزات، والإساءة للدول الصديقة، وتضليل المتابعين عبر الإعلانات المزيفة، والمنتجات المقلدة، في فوضى غير منضبطة.. والمتسبب "مشاهير التواصل الاجتماعي".
ولجأ بعضهم إلى تقديم نمط حياة متكلف ومزيف، يصوِّر للمراهقين وصغار الشباب كما لو أن حياتهم بائسة بدون هذه الأنماط الحياتية، أو أساليب المعيشة.. فهم يقضون أوقاتهم في المقاصد السياحية باهظة الثمن، ويركبون السيارات الفارهة، ويتناولون عشاءهم في أفخم المطاعم والفنادق، ويبرزون مظاهر البذخ والترف، كما لو كانت هي القاعدة.. إلا أنه في حقيقة الأمر نوع من "الهياط"، لا يرتقي إلى واقع الحياة، لكنه ينطلي على صغار الشباب، ويُحيل حياتهم إلى جحيم وشقاء، ويؤثر على سلوكياتهم ونظرتهم إلى الحياة؛ لأنهم لا يستطيعون أن يمارسوا حياتهم، ويعيشون مثل ذلك "المشهور" المتصنع.
بينما تفنتت بعض الحسابات في التجاوزات الأخلاقية، والخادشة للحياء، التي لا تتناسب مع قيم المجتمع ومبادئه؛ والهدف (فولو)، أو متابعة و(لايك) و(شير)، وتحقيق أعلى نِسب مشاهدة للمقاطع، وليس المتابعون هم الهدف بذاته، ولكنهم مجرد وسيلة لغاية أكبر، هو المال، غير عابئين بمدى تأثير طرحهم ومحتواهم على المتابعين، وأحيانًا غير مدركين لتلك الخطورة!
"لا تجعلوا من الحمقى مشاهير".. تلك هي العبارة التي يجب أن يعيها جيدًا كل متابع، ويتخذها دستورًا له قبل أن يمسك جواله الذكي لتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، ومتابعة حسابات المشاهير والمؤثرين، وذلك قبل أي حديث عن ضوابط قانونية لعملهم ومحتواهم الذي يقدمونه.
وقبل سنوات قليلة فطن الكثير من المتابعين لخطر هؤلاء "المشاهير"؛ ما حدا بهم إلى إطلاق حملة لحجب الحسابات غير الهادفة، والتحذير من خطر الانسياق إلى محتواهم. وعلى الرغم من نجاح الحملة في ذلك الوقت إلا أن هؤلاء استطاعوا امتصاص ذلك الغضب الشعبي، وعادوا إلى ممارسة السطحية، وغسل أدمغة المتابعين، وتضييع أوقاتهم بلا فائدة أو طائل؛ وهو ما ينبه إلى تأثيرهم القوي الذي لا يمكن إنكاره، ولاسيما على الفئات صغيرة السن.
وعلى الرغم من الفرصة الكبرى التي أوجدتها التكنولوجيا الحديثة، ووسائل التواصل الاجتماعي، وقدمتها للمهتمين بإنشاء محتوى هادف عبر أسهل وأقصر الطرق، وتعزيز المحتوى العربي، إلا أنها تبدو فرصة ضائعة.
ويعبِّر الدكتور عبدالوهاب السعدون عن خيبة أمله في ضياعها بقوله: "نعيش خيبة أمل من ضياع فرصة ذهبية لتفعيل صناعة تأثير مبنية على مبادئ جليلة بأساليب مبتكرة.. خيبة أمل من الفشل في استغلال استعداد المجتمع لتقبُّل نوع جديد من التأثير، مبني على محتوى ثري بالقيم، وذلك بعد تساقط أوراق خريف مشاهير الفلس ذوي سطحية الطرح، ودعاة الاستهلاك الهمجي وزعزعة القيم".
ويعود الأمين العام للاتحاد الخليجي للبتروكيماويات والكيماويات لبلورة المشهد العبثي على وسائل التواصل الاجتماعي قائلاً: "مشاهير الفلس تسيدوا منصات التواصل الاجتماعي بضحالة الطرح، وسفاهة النهج.. دافعُهم الأساسي الربح المادي، الذي سوغ لهم ابتذال الذوق العام، وتقديم عنصر التشويق والإثارة، وانتهاج خطة مدروسة للترويج للخروج عن القيم، وبرمجة العقل الجمعي في مجتمعاتنا على تقبُّل الإسفاف والضحالة الفكرية والغوغائية!".
بينما يتساءل الكاتب جاسر الماضي عمن تسبب في هذه الفوضى التي تعيشها وسائل التواصل الاجتماعي، وقال: "يستضيفونهم، ويروجون لهم في القنوات الرسمية؛ ربما بذريعة الاحتواء، وإذا (جابوا العيد) رفعوا هاشتاق مشاهير الفلس بذريعة الدفاع. من هو مهندس هذه الفوضى؟!!".
وعلى الرغم من هذا الظلام إلا أن هناك في آخر النفق بصيص نور؛ فلا يمكن إغفال وجود الكثير من الحسابات المفيدة، ذات المحتوى النافع والعميق فكريًّا، والمدركة جيدًا لأمانة الكلمة والصورة، وخطورة المحتوى غير الهادف على النشء.. وهنا يستطيع المتابع تفريق الغث من الثمين؛ ففي النهاية ما ينفع الناس يبقى ويستمر؛ يقول الحق سبحانه وتعالى: { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}.