أضحى من اللائق أن نعيد تسمية الأشياء بأسمائها الملائمة لها.. فالمربي الذي كان يقوم بالدور الأكبر في الإصلاح والتهذيب قديماً صار له منافسون جدد، قلّصوا تأثيره ودوره، حتى انحسرت أهميته في التلقين العلمي والوساطة المعرفية، وتحول إلى مجرد محاضر، يلقي الدروس والشروح، وينتهي كل شيء.. فالوزارة تعد المنهج، وتصنع الوسيلة التعليمية، وتتيح للطالب التعلم عبر قنواتها التعليمية، وها هي حالياً بصدد تحويل التدريس في بعض المدارس عبر التعلم عن بُعد، ولم يبقَ للمعلم إلا سلوكه وأخلاقه التلقائية الإيجابية، التي تتيح هامشاً من المصداقية، وتؤثر في تربية المتعلم.
لستُ بصدد تكوين نظرية جديدة عن (موت المربي) أو نهايته على غرار نظرية موت المثقف.
لكن الواقع يقول إن المهمة التنويرية للمربي خبت كثيراً نتيجة التراكم المعرفي، والقضاء على الأمية، وانتشار التعليم، وانعدام الحواجز المكانية والموانع الزمانية.. وهذه المهمة في طريقها للانطفاء ما لم يتدارك التربويون ذلك. هذا لو كان هناك عددٌ من علماء التربية ومفكريها، بيد أن الساحة خالية من المتحدثين في الشأن العام التربوي؛ لأنهم مشغولون ببحوث الترقية في الجامعات!
لقد كان المربي يتسيّد المشهد التربوي والفكري خلال السنوات البعيدة الماضية، وبالتحديد قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، والانفتاح الهائل في وسائل الإعلام، التي جلبت معها العديد من الثقافات والأفكار المختلفة أياً كان نوعها، ضاراً أم نافعاً.. فزاحمت هذه المعارف الجديدة والمعلومات الهائلة الفكر الضيق والأحادي، الذي كان يتلقاه المتعلم في المدرسة. فالوالد أصبحت له شخصيته المحددة، التي يحاول أن يكسبها لولده بعيداً عن تأثيرات المعلم المباشرة، والأم لديها النمط الخاص الذي تتمنى أن تغرسه في ابنها، والمجتمع يحاول أن يصهرك في قوالبه الجامدة.
وما إن يتعلم الطفل أبجديات استخدام الوسائط الاجتماعية الجديدة حتى يأتيه سيل هادر من كل حدب وصوب من التوجيهات الرشيدة، والحكايات التاريخية، والتعليقات الركيكة، والمعلومات المضطربة.. فيختلط الغث بالسمين، والصالح بالفاسد؛ فتبدأ تتشكل الشخصية في غفلة من المربّي.
إن المتعلم اليوم لم يعد يتوقع وهو يتوجه في الطريق إلى المدرسة أنه سيجد ضالته من الأفكار التي يريدها والأخلاق التي ينشدها. أما المعلومات التي يسمعها من المعلم فلا يلقي لها بالاً كبيراً، ولولا أنه يخشى من الإخفاق - لا العقاب - في المادة الدراسية لخرج من قاعة الدرس بلا أدنى مبالاة؛ لذلك يُفاجَأ المعلم حين يدخل أول حصة في العام الدراسي بالسؤال الجاهز: كيف أسئلة الامتحان النهائية يا أستاذ؟!
ربما يكون الدور التربوي الذي لا يزال شاغراً ولم يستغل هو في السنيّ الأولى للطفل، وبالتحديد في مرحلتَيْ الروضة والتمهيدي، اللتين لا يزال الطفل فيهما خميرة قابلة للتشكيل والتأثير، بيد أن معظم هذه المراحل يمارَس فيها اللهو أكثر من التربية، واللعب أكثر من التعلم، والغياب أكثر من الحضور.. لذلك تذهب هذه السنوات هدراً إلا من فوائد بسيطة، لا توازي السنتين اللتين قضاهما الطفل في روضته، أو التي كان يأملها ولي الأمر على الأقل. ولا يقع اللوم كثيراً على معلمات هذه المرحلة؛ فوزارة التربية لا تحفل كثيراً بهذه الروضات، ولا تعول عليها الكثير، أو تعيّن متخصصات فيها، أو تقرر بناء مناهج لها، أو تضبط نظامها التعليمي.. وحين تسأل متعلماً في السنة الثانية من دراسته النظامية عن اسم معلمته لا يتذكر. وحتى المعارف التي تحصل عليها لا تتجاوز حفظ سورة الفاتحة، وسورتَين قصيرتَين معها، وربما حفظ الأرقام من الواحد حتى العشرة.
قصارى القول: يجب أن نخلق أدوراً جديدة للمعلمين في المدارس، أو نغير في طريقة أدائنا؛ حتى نواكب هذه العولمة التربوية، ونرشد هذا الكم الكبير من المعارف المتعددة، والمد المتدفق المعرفي؛ فنوظف الصالح منه، ونطرد السيئ ، الذي لا يغني ولا يسمن من جوع. وعلينا أن نعي في النهاية أن المدرسة الحالية تُكسب 70 % من المعرفة العلمية، لكن دورها في تنمية الأخلاق والسلوك لا يتجاوز 15 %، وأن الدور الأكبر للمجتمع الذي يكسب المتعلم 70 % من الأخلاق والسلوك.