ليس جديدًا أن يهاجمنا الغرب، وأن ينتقد أحكام الشرع الحنيف المنزَّلة من لدن حكيم عليم، ويتبجح بوصف تطبيقنا لها بأنه انتهاك لحقوق الإنسان؛ فهو كافر بهذا كله؛ فلا غرابة إذن.
أما أن يتبنى كتَّاب ومثقفون من أبناء جلدتنا، وممن تعلموا في مدارسنا، ونشؤوا وترعرعوا في أحضان السلفية الحقة،مهاجمة أحكام الشرع الحنيف وعلماء الدين الأجلاء الذين حملوا مشعل العلم، وما زالوا يحملونه بعون من الله عز وجل، ووصلوا بالدعوة إلى أصقاع الدنيا محتسبين الأجر على الله، فهذه – والله - هي أم المصائب. فهناك من الأقلام من زُرع في معظم الوسائل الإعلامية المقروءة، وليس له هَمٌّ إلا انتقاد الإسلام وتعاليمه، واتهام العلماء بأنهم أساؤوا فَهْم هذه التعاليم، ويدعوننا بكل سذاجة إلى أن نتبع ما تسطره أقلامهم من ترهات وآراء، لا تصدر إلا عن فاقد بصيرة والعياذ بالله؛ فترى أحدهم يقدم نفسه وكأنه هو من يملك الحقيقة، وتراه يستشهد ويدلل ويتحدث بكل ثقة، ويقرر في آخر ما يكتب أن ما قدمه من أدلة لا يدع مجالاً للشك بأننا أخطأنا، وأن علينا أن نتبع ما يقول؛ فهو الأفهم لما يضرنا وينفعنا! وآخر يخرج علينا بصراخ وعويل بسبب تخلُّفنا عن ركب الحضارة العالمية التي أخذت بالسينما ومساواة الرجل بالمرأة، من خلال ممارسة المرأة الرياضة كما يمارسها الرجال، وأن عدم مشاركة نسائنا في المونديالات العالمية، وعدم حضورهن المباريات، هو من سيجلب لنا الويلات!!
وللأسف، إن هذه الأصوات خرجت بهذا الفكر إلى الخارج، وعمَّمت هذه المطالب التافهة على أنها من الحريات التي أتى بها الإسلام، وأن علماء الدين هم من حرموا الناس من التمتع بها، وسلطوا رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليتابعوا تنفيذ حرمان الناس من هذه الحقوق!!
صدقوني، إن هذا هو المشهد الحقيقي لمن يريد أن يرى بشكل واضح. ومن متابعاتي لكثير من السجالات على شاشات قنواتنا الفضائية المهاجرة لا ترى إلا هذا السجال. مذيع يتبنى وجهة نظر القناة في قضية مثيرة للجدل، مثل قيادة المرأة للسيارة، وضيوفه مواطنون، فريق يدافع من وجهة نظر دينية، وفريق آخر يدافع من وجهة نظر الغرب. ولا أريد أن أطلق لفظ علماني على الفريق الذي يتبنى وجهة النظر الغربية؛ فقد راج استخدام هذا اللفظ على كل من يخرج على تعاليم الإسلام من أبنائه، والأمر غير ذلك؛ لأن العلمانية هي فصل الدين عن الحياة برمتها كأيديولوجية أو عقيدة أو منهج حياة، ولها منظِّروها وقادتها ومريدوها.. وهذا بحد ذاته خروج عن الدين - والعياذ بالله -. وكلمة تحرري التي يختبئ البعض خلفها ما هي إلا الوجه الآخر المقيت للعلمانية؛ فهما وجهان لعملة واحدة. ويبدأ الفريقان في الجدل حول القضية المطروحة. وفي الحقيقة، أجد نفسي مشفقًا على الفريق الذي قَبِل أن يناقش في قضية محسومة من قِبل الشرع، وأقصد أن الإسلام السمح لم يترك للبشر أن يحكموا بعقولهم القاصرة على القضايا والمستجدات، وإنما ترك الأمر لأهل الحل والعقد، وهم علماء المسلمين، ممن مَنَّ الله عليهم بالتبحر في العلم والتمكُّن من أصول الفقه والقدرة على الاجتهاد بما يتناسب ومقتضيات الحال والزمان في المسائل التي تستجد، وهذا الأمر يتم بحياد كامل بعيدًا عن الهوى وتغليب الرأي، ومن خلال عرض المسألة على ميزان الشرع، وهو الحلال والحرام، فإن غلب جانب المصلحة وعدم مخالفة الشرع أجيز الأمر بفتوى يقرها جمع من العلماء، وإن ظهر أن هناك مفاسد مترتبة على الأخذ بإجازة المسألة المنظورة أُغلق باب النقاش فيها. وهذا المنهج هو المنهج الإسلامي الذي تؤيده الآية الكريمة {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} الأحزاب الآية 36.
وهكذا، نرى أن الأمور محسومة في الإسلام، وليست متروكة للهوى وتغليب الرأي، ولا خيار لأحد فيما يقرره الشرع؛ فهو المنهج الحق، والمحجة البيضاء التي تركنا الرسول محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - عليها، لا يزيغ عنها إلا هالك؛ فيجب على المسلم أن يحرِّر عقله من غلبة الهوى ووسوسة الشيطان، وإلا فكيف يخرج علينا من يحمل شهادة الدكتوراه ويقدَّم لنا على أنه مثقف، ويقول أمام الملأ إن لبس المرأة الثوب القصير لا بأس به مستدلاً بالآية الكريمة { قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ۗ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} النمل الآية 44!!
ورغم أن هناك من ألجمه برد صاعق إلا أن ما قاله يعكس حقيقة ووهن الفكر الذي يحمله بعض أبناء المسلمين ولو ارتقى في العلم والمنصب، وهو العامل الحاسم الذي أغرى الغرب بالتجني والنَّيل من الإسلام، رغم أننا لا نأبه بما يقوله الغرب؛ لأنه عجز عن إصلاح مجتمعاته المتفككة، بل زادها وهنًا على وهن، ولسنا ببعيد أن نرى تحليل زواج المثليين يصادَق عليه في أكثر من دولة أوروبية، في الوقت الذي يمنع فيه القانون الوضعي في تلك البلدان الزواج بأكثر من واحدة، فهل بقي ما يقال بعد هذا التيه والضلال؟! وأخرى تستدل على مسابقة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم – لعائشة - رضي الله عنها - بأحقيتها وزميلاتها لتكوين فريق كرة سلة وكرة قدم والمشاركة في المناسبات الرياضية. هكذا بكل سطحية، وهي تدرك أن ما استدلت به لا علاقة له البتة بما تطرحه هراء. وأنا هنا أريد فقط أن أناقش من يؤيد مثل هذا الرأي ومَن يطالبون بإدراج حصة رياضة للبنات في المدارس، فأقول: هل هؤلاء النسوة اللاتي يردن ممارسة الرياضة خارج الحدود فكَّرن في سفرهن بدون مَحْرم؟ وفيمن سيدرِّبهن؟ والأهم من ذلك كله، هل سيُسمح لهن متحجبات؟ وماذا عن لبسهن الرياضي؟.. ويبدو أن هل هذه لا نهاية لها. هل تعتقدن أن المنظمين سيسمحون لكن بأن تلعبن بحجابكن؟ الغرب حارب الحجاب الإسلامي في الجامعات والمدارس، فكيف سيسمح به في الرياضة؟ وكيف يمكن لمسلمة أن تجري وتلعب أمام الناس بهذه الطريقة؟ بالله عليكم، هل شاهدتم بأي لبس تلعب نساء الغرب ومن لف لفَّهن كرة تنس المضرب؟ هل هناك امتهان لكرامة المرأة أكثر من هذا الامتهان؟ والحال نفسها تنطبق على المصارعة الحرة، وغيرها من الألعاب التي لا تناسب طبيعة المرأة وخصوصيتها. وأما من يطالب بحصة رياضة في مدارس البنات فأقول إنني أطالب بإلغائها في مدارس البنين؛ فهي عبء على الطلبة، وتضييع وقت لهم.. وجميعنا يعرف كيف تمارَس الرياضة في هذه الحصة، بل إنني أدعو إلى إعادة تفعيل الأنشطة اللاصفية للبنات والبنين، بحيث تكون هناك جمعيات أنشطة مختلفة، ويُخصَّص يوم الخميس لممارسة هذه الأنشطة؛ ما يخفف العبء الدراسيعلى الطلبة، ويكسر روتين اليوم الدراسي.. وحتى لا يتحول هذا اليوم إلى إجازة يجب أن يُربط حضوره وممارسة النشاط بعدد من الدرجات في كل مادة. ثم ما الذي يمنع كل طالبة أو أُمّ بممارسة الرياضة في البيت من خلال الأجهزة الرياضية التي أصبحت متاحة بأرخص الأسعار؟! لأن طرح البعض لهذا الأمر يثير السخرية؛ فقد تذرع أحدهم بأن أوزان الإناثأصبحت زائدة، وتفشى الضغط والسكري في أوساط النساء بشكل ملحوظ، وليس لهذا الأمر من حل إلا بإقرار حصة الرياضة في مدارس البنات!! صدقوني، هذا الطرح جاء في أحد البرامج الرياضية الإذاعية الجماهيرية على لسان مَنْ قُدِّم لنا بأنه محلل وكاتب رياضي. وكان الرجل يتكلم بكل ثقة، وفي حضور مقدِّم البرنامج وضيف آخر، وكانا يستمعان وكأن على رأسيهما الطير، ولم يعلقا على هذا الطرح بما يوحي بأنهما موافقان. والدعوة للمشاركة الرياضية من قِبل النساء ليست من باب الحرص على المرأة، وهدفها معروف، سواء ممن ضلوا من أبناء المسلمين، أو من الغرب، وهو القضاء على الميزة التي حبا الله بها النساء المسلمات، وهي الحجاب؛ فلا حشمة للمرأة بدونه، وجميعكم يتذكر الاستياء الاجتماعي الذي صاحب حضور النساء في مباراة السوبر التي أُقيمت في لندن بدون مبرر؛ فهؤلاء النسوة المسلمات اللاتي ظهرن سافرات متبرجات لم يُسئن لأنفسهن فقط، بل لتعاليم دينهن؛ لأن ما أقدمن عليه هو تمرد ورفض لأوامر الله سبحانه وتعالى ورسوله محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -. يقول تعالى في مُحكم التنزيل {... وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ...} الآية - النور الآية 31. فكيف يستقيم الأمر مع من خرجن في شوارع لندن وعلى شاشات القنوات التي تنقل المباراة للملايين بشعورهن وبكامل زينتهن؟! وكيف يمكن لنا أن نستنكر بعد هذه التصرفات ما يقوم به الغرب من تضييق ومنع تجاه المحجبات في الجامعات والمدارس الغربية؟!!
وإنه لمن المعيب أن يكون جنودنا البواسل يدافعون عن حياض الدين والوطن وعن أمة الإسلام برمتها في الوقت الذي تنشغل فيه معظم القنوات الفضائية العربية ببرامج اختيار أجمل صوت غنائي، وأجمل أداء، وغير ذلك مما يجعل الشباب - وهم عماد الأوطان - في غياب تام عن هموم أمتهم؛ فهناك شهداء يسقطون في ساحات العز والشرف والدفاع عن الأمةضد من يتربص بها؛ وليس من الوفاء أن نقابل كل هذه التضحيات بالرقص والغناء!!
وانظروا من حولكم، لقد جرى تشويه صورة المرأة العربية في هذه القنوات بشكل ممنهج، من خلال تبرُّجها وسفورها، وعدم اكتراثها من أجل جذب انتباه الرجال. وأستغرب كل الغرابة أن تقبل المرأة على نفسها أن تكون أداة بيد هؤلاء التجار، يسيِّرونها حسب أهوائهم، ويتخذونها وسيلة رخيصة للترويج للسلع والخدمات من خلال استعراض مفاتنها - والعياذ بالله -.
فنحن – للأسف - مَنْ أرخصنا ديننا وقيمنا وكل ما يمت لديننا بصلة أمام الغرب؛ ولذلك طمع فينا الطامعون. ومن ذلك حملات التغريب التي قادها - وما زال يقودها - البعض منأبناء الإسلام المعجبين بالغرب، أو الذين تخرجوا في جامعاته، ضد الدين واللغة العربية، مطالبين بتخفيف العبء الدراسي فيهما.. ولكم أن تتخيلوا – أعزتي – أنه لم يشكِّل مشقة وعنتًا على أبنائنا إلا تعلم أمور دينهم والتمكُّن من لغتهم (لغة القرآن)!! هذه اللغة العظيمة التي علَّمت العالم كله، ولو لم تكن صالحة لكل زمان ومكان لما اختارها رب العباد لتكون لغة القرآن. وكم رأينا الكثير ممن هدى الله قلوبهم من أبناءالشعوب الأخرى يتحدثون بالعربية أفضل من بعض أبنائها؛ فلِمَ هذه الحملة الشعواء على لغة القرآن؟! إنني ما زلت متأكدًا أن اللغة العربية يمكن لها أن تستوعب كل العلوم التي على وجه الأرض؛ فهي قد وسعت كتاب الله، فكيف بها تضيق بعلوم الإنسان المخلوق؟!
إنه لمن المحزن أن نرى انحدار مستوى الطلاب في اللغة العربية من الجنسين تحدُّثًا وكتابةً، إلى حد يثير الشفقة، وخصوصًا عندما يكتب أحدهم، فلا تعرف كيف تفك هذه الرموز التي أمامك؛ وما ذلك إلا بسبب انحدار مستوى تعليم اللغة، وتقليص حصصها. ودعوني أستشهد لكم بدليل قد يفاجئ الجميع، وقُدِّر لي أن أطلع عليه، وهو تحقيق صحفي، ورد في صحيفة "لاريبوليكا" الإيطالية، ونُشر في العام1427هـ، وجاء فيه "إن كلية اللغات بالجامعات الإيطالية تغص بطلبات الالتحاق لدراسة اللغة العربية (لغة الإسلاموالقرآن) من قِبل الطلاب والطالبات الإيطاليين، لدرجة أن كلية اللغات الشرقية بمدينة نابولي الإيطالية - وهي كلية قديمة ومشهورة - قد ازداد عدد الملتحقين بها لدراسة اللغة العربية بنسبة 250 في المائة عن عام 2002، كما ازداد عدد الطلبة في مختلف الجامعات من الذين يرغبون في دراسة اللغة العربية والتعمق في ثقافة الإسلام". بينما نحن على النقيض، وما أكثر الناعقين بضرورة تقليص حصص تدريس اللغة العربية والمناداة بتكثيف تدريس اللغة الإنجليزية، وهو – والله - إن حدث لخطأ فادحٌ. وإن كانت هناك بوادر لتغريب بعض المناهج العلمية، أرجو أن يعاد النظر فيها، وتُدرَّس كما كانت بلغتنا الأم. ولا بأس أن تُترجم المصطلحات العربية إلىاللغة الإنجليزية جنبًا إلى جنب، أما أن يكون المنهج كله باللغة الإنجليزية فهذا مرفوض جملةً وتفصيلاً. وبعيدًا عن المزايدات، فقد تخرجت أجيال - ونحن منهم - من الجنسين، ممن درسوا العلوم باللغة العربية، وهم فطاحل، وبعضهم علماء في الرياضيات والاقتصاد والمحاسبة والفيزياء والطب.. ونجيد - ولله الحمد - اللغة الإنجليزية تحدُّثًا وكتابةً، ولكن بعد أن أنهينا مراحلنا التعليمية الأولية ونحن نولي لغتنا (لغة الضاد) جُلَّ اهتمامنا وعنايتنا.
دعوة صادقة لكل أبناء وطني العزيز: نحن مَنْ شرَّفنا الله بخدمة الحرمين الشريفين، وهذه أمانة ومسؤولية أمام الله؛ فلا يستقيم أن يخرج من بيننا مَنْ يكيل للدين أو أهله، ومَنْ ينتقص من تعاليم الدين الحنيف، مهما كان المبرر؛ فالدين صالح لكل زمان ومكان، ومحمد بن عبدالله - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يمت حتى أكمل الله لنا الدين، ورضي لنا الإسلام دينًا؛ فلا خيار لنا إلا الإسلام، ولا عزة لنا إلا بالإسلام. والله من وراء القصد.