هذا ليس مطلع قصيدة وجودية أو عنوان رواية تستجدي الخيال..
إنه مشهد واقعي تقصر الكلمات دون وصفه ، ولا ينقص من حقيقته المثيرة عدم قدرة الكثيرين على تصوّر تفاصيله.
كان ذلك قبيل مغرب يومٍ قائظ من أيام اغسطس 2009 م ، في المركز الإقليمي للمراقبة الجوية بجدة ، حيث جلس سالم باعبيد وحيداً يُدير السماء بكل ما تعنيه الكلمة من معنى!
بدت أجواء الصالة المعزولة الباردة مختلفة تماماً عن خارجها ، حيث الصخب الذي يملأ صالات المطار على بعد 300م وطقس جدة الغارق بالرطوبة.
جلستُ خلفه مباشرةً أتأمل شاشة الرادار التي أمامه ، وجسده النحيل المتحفّز يبتعد عن ظهر كرسيّه فيما يداه تتحركان بسرعة وهو يكتب ثم يزيح (الاستربات) دون أن يتوقف عن الكلام لحظة.
كنتُ أتأمل طاقيته ( المشخّلة ) وبعض الشعيرات النافرة بين الفتحات ، معقوفة ، وكأنها تلتمس طريقاً للهرب من سخونة الأفكار المعقدة التي تطبخ تحتها خلال جزء من الثانية دون أن يكون للخطأ أي نسبة فيما يقرره (وحده) ، وما يمليه (وحده) على الطيارين الذين ملأت أصواتهم الفضاء!
كان وحيداً بالفعل ، يخاطب عشرات الطائرات ، ويدير الحركة الجوية وفق ما تعلمه وأتقنه من قوانين تكفل سلامة الجميع بإذن الله.
آنذاك ، لم تكن الأجواء الإيرانية والعراقية ( نتيجة الأوضاع الأمنيّة ) مجدية لشركات الطيران ، لذلك كانت الحركة الجوية من الشرق إلى الغرب (والعكس) تمر غالباً بالأجواء السعودية في كثافة مذهلة ، لدرجة أن الطرق الجوية كانت شديدة الشبه بجادة النمل غير أنها أبعد ما تكون عن الفوضى.
القصة ليست هنا..
القصة هي أن المراقب الجوي سالم باعبيد ظل على المرتبة السادسة من نظام الخدمة المدنية لمدة 11 سنة دون ترقية ، كما أنه يتقاضى تقريباً ربع راتب المراقب الجوي في الإمارات أو قطر أو البحرين ، رغم أنه يبذل جهداً ربما يساوي جهد الثلاثة مجتمعين خلاف أنه بلا تأمين طبي ولا مميزات.
سالم باعبيد هو محمد الناصري وهو ولي قوته وهو سليمان الماضي وهو سعد الأحمدي وهو محمد عايش وهو خالد المطرفي وهو عبدالرحمن الزهراني وهو حسن هوساوي وهو محمد باسالم وهو ناصر القحطاني وهو صالح البقمي وهو علي الصافي وهو ظافر الشهري وهو محمد الجديبي .. وهو عشرات المراقبين الجويين الذين قضوا عشرات السنين محافظين على سلامة الأجواء ، ساهرين صائمين مفطرين معيدين في مواقع العمل على مدار الأربع والعشرين ساعة وسط ظروف لم تكن مشجعة .
اليوم ، مهنة المراقبة الجوية واحدة من أهم المهن في المملكة وأكثرها تطوراً ومردوداً مالياً وميزات وظيفية ، لقد ساهمت إعادة هيكلة الطيران المدني بذلك ، ومن آخر الخطوات تحوّل قطاع الملاحة الجوية إلى شركة مستقلة ابتداءً من نوفمبر الحالي ، غير أن معظم الرجال الذين ساهموا في بناء تاريخ المراقبة الجوية لن يتمتعوا كثيراً بهذا التغيّر الايجابي ، فأكثرهم لم يتبق لهم على التقاعد سوى سنوات قليلة بعد أن صنعوا إرثاً عملياً ناصعاً تتكئ عليه الشركة الوليدة وهي تواصل تقديم الكفاءات السعودية الشابة.
لم يغب عن ذاكرتي المشهد الفريد لـ "با عبيد" ، ( ومشاهد بطولية كثيرة لزملائه)..
ستظل ذاكرة أجواء الوطن تحمل بصمات أصواتهم ، وتحفظ لكل واحدٍ منهم أنه كان لفترات طويلة من عمره "وحيداً يدير السماء"!