مع وصول بطولة أمم أوروبا لكرة القدم "يورو 2024" مرحلة المربع الذهبي المثير، وما سيشهده هذا الدور من تنافس من العيار الثقيل بين عمالقة أوروبا، وكذلك اقتراب نصف النهائي لبطولة "كوبا أمريكا 2024"، التي شهدت العديد من المفاجآت والمباريات القوية؛ يبرز السؤال: لماذا كرة القدم خلقت كل هذه الفرحة والدهشة حول العالم؛ ما هو السر؟ ولماذا صنعت كل هذه السعادة والإثارة عند الملايين؟ وإلى أي مدى أصبحت "الساحرة المستديرة" هي عشق الناس على اختلاف ثقافاتهم وأعراقهم؟
للإجابة على تلك التساؤلات دعونا نتفق أولًا على أن كرة القدم لم تعد لعبة للتسلية وتمضية الوقت؛ بل أصبحت حاليًا تشكل حيزًا كبيرًا من اهتمام ومتابعة الجماهير الرياضية حول العالم، وباتت المتنفس لتفريغ ضغوطات الحياة، وهمومها من خلال إثارة الحماس والتشجيع، والانتماء، وتعزيز روح الفريق والتعاون والتسامح بين الجماهير، وباتت رياضة لها تنظيمها وقواعدها وأساليبها للوصول لأفضل النتائج والبطولات.
وتؤكد نظريات علم النفس الحديثة، أن لعبة كرة القدم قادرة على إظهار البهجة والفرحة في النفوس فهي تساعد على تفريغ الشحنات والطاقات السالبة، وتساعد على تخفيف القلق والتوتر والاكتئاب والعزلة، وتتميز بطابعها التنافسي الذي يملأ النفوس بالشغف والحب، كما أنها لعبة متاحة للجميع، ولا تحتاج إلى الأموال الطائلة لممارستها أو مشاهدتها؛ على عكس بعض الرياضات النخبوية، ولاعبوها المشهورون مثل ميسي، وكريستيانو رونالدو، وإمبابي، وغيرهم يتنافسون من أجل المتعة والتحدي والشغف، والشهرة.
"الساحرة المستديرة" كما تُلَقب، هي لعبة مختلفة عن غيرها، لعبة جميلة تعتمد على حسن إدارة الفريق، والمهارات والسرعة، والتخطيط، والذكاء، والصبر، والقوة، والإصرار على تجاوز الخصوم لتحقيق الانتصارات، وكسب البطولات والتحديات، ولذا تثير الحماس.. وهي لعبة الفقراء الذين يمارسونها بشغف في الأزقة الضيقة والأحياء المتواضعة، والملاعب الترابية، ويلعبها متوسطو الحال، ويركلونها في الساحات العامة، والميادين.. ويفضلها الأثرياء كذلك وميسورو الحال في ملاعبهم العشبية الراقية، والكل صغير وكبير يتعلق قلبه بها، ويتابع منافساتها وبطولاتها؛ حتى إن الصغار المحبين لها يقلدون نجومهم المفضلين في حركاتهم، ويلبسون قمصانهم، ويحملون أرقامهم، والمرضى عند مشاهدة المباريات يتناسون آلامهم ودموعهم لبعض الوقت؛ مما يفسر بشكل عام مدى تأثير كرة القدم في حياة الناس، ويؤكد كذلك قدرة نجوم اللعبة على دعم الكثير من المساهمات اجتماعيًّا وإنسانيًّا، وتقديم المبادرات الواعية كنماذج يحتذى بها في أجمل صورها الإنسانية؛ مما يعكس وجهًا مشرقًا للعبة محليًّا ودوليًّا.
ولمعرفة مدى تغلغل حب كرة القدم في مختلف مسارات الحياة في المجتمعات؛ يُحكى أن عضوًا سابقًا في الكونجرس المكسيكي اسمه "فيكتور كوينتانا" تم اختطافه من قِبَل عصابة في منتصف عام 1997م، استؤجروا لمعاقبته على كشفه بعض الأعمال الفاسدة؛ فكان أن طرحوه أرضًا وأوثقوا رباطه، وراحوا يركلونه حتى شارف على الموت، وقبل أن يجهزوا عليه برصاصة، بدأوا النقاش حول مباريات كرة القدم، ورغم أن "فيكتور" كان أقرب إلى الموت منه إلى الحياة؛ فقد أدلى بدلوه في النقاش، وانبرى يروي لهم قصصًا ومواقف وتحليلات رياضية، ومع كل حكاية كان ثمة دقائق تضاف إلى حياته.. مر الوقت والقصص تجيء وتمضي، وفي النهاية تركه القتلة، مضروبًا ومحطمًا لكنه حي. قالوا له: "أنت في مأمن"، وذهبوا بأسلحتهم إلى مكان آخر، (قصة مقتبسة من كتاب "كرة القدم في الشمس والظل" للكاتب الأوروغوياني إدواردو غاليانو).