بعدما كان الوسواس القهري يتحكّم في حياة آمبر بيرسون، التي كانت تغسل يديها حتى تنزفا، أو تعيد التحقّق عدة مرات من أنّ النوافذ مغلقة، أو تتناول الطعام بمفردها خوفاً من الإصابة بأي عدوى، باتت هذه التصرفات مجرّد ذكريات لها، بعد غرس شريحة بالدماغ تُعدّ ثورية في معالجة هذا الاضطراب النفسي.
وحسب تقرير لوكالة "فرانس برس"، فهذه المرأة الأمريكية، البالغة 34 عاماً، أول شخص يُزَوَّد بجهازٍ صغيرٍ مماثلٍ في الحجم ضمادة صغيرة، في الجزء الخلفي من دماغها، مما قلّص اضطرابات الوسواس القهري ونوبات الصرع التي كانت تعانيها.
ويمثل هذا الجهاز تقدّماً علمياً واعداً، غيّر حياة المريضة بشكلٍ جذري.
وحسب موقع "مايو كلينك"، فاضطراب الوسواس القهري هو سيطرة نمط من الأفكار والمخاوف غير المرغوب فيها على الانسان، وتُسمى الوساوس. وتدفع تلك الوساوس "كالخوف من التلوّث والقاذورات" إلى سلوكياتٍ يكرّر فيها الإنسان فعل نفس الأشياء مرات عديدة "كغسل اليدين كل خمس دقائق أو الاستمرار في غسلها فترات طويلة"، وتُسمى هذه الحالة السلوكيات القهرية، تُعوق هذه الوساوس والسلوكيات القهرية الأنشطة اليومية وتسبّب ضيقًا شديدًا.
وفي حديثٍ إلى "فرانس برس"، تقول "بيرسون": التي تقيم في ولاية أوريغون، غربي الولايات المتحدة "تحسّنت حياتي اليومية وبتّ حاضرة فيها، وهذا أمرٌ مذهل"، مضيفةً "قبل ذلك، كنت محاصرةً باستمرار داخل ذهني ومنشغلة بهواجسي".
وقد تستهلك اضطرابات الوسواس القهري الحاد ما يصل إلى "ثماني أو تسع ساعات" من يومها، مما يتسبّب في عزلتها اجتماعياً.
وكانت قبل الخلود إلى النوم، تتأكّد من أنّ الأبواب والنوافذ مغلقة، وتمديدات الغاز غير مشغّلة والكهرباء مفصولة عن الأجهزة.
وخشية الإصابة بأي عدوى، كانت تستحم في كل مرة تهتم بقطتها، وكانت تغسل يديها جيداً لدرجة أن تصبح مفاصلها جافة وتنزف. وغالباً ما كانت تفضّل تناول الطعام بمفردها لا مع أفراد عائلتها أو أصدقائها.
وبعدما خضعت لعملية غرس الشريحة، باتت اضطرابات الوسواس القهري تأخذ نحو ثلاثين دقيقة فقط من يومها.
وترسل الشريحة، التي يبلغ قطرها 32 ملم، نبضاً كهربائياً عندما ترصد ردود أفعال غير طبيعية في دماغ المريض لاستعادة الأداء الطبيعي.
وتُستخدم هذه التقنية التي تسمى التحفيز العميق للدماغ، منذ أكثر من 30 سنة لعلاج الصرع.
لكن دورها في الحد من اضطرابات الوسواس القهري كان لا يزال غير مفهوم بشكل جيد ويقتصر على الأبحاث التجريبية، حتى الجراحة المبتكرة التي أجراها أطباء من جامعة أوريغون للصحة والعلوم عام 2019 لبيرسون.
وخضعت المرأة لعملية زرع "جهاز للوسواس القهري والصرع، وهو الجهاز الوحيد في العالم الذي يعالج هذين المرضين" في الوقت نفسه، على ما يؤكّد جرّاح الأعصاب أحمد رسلان، الذي لا يزال مندهشا من نتائج مريضته.
تجدر الإشارة إلى أنّ "بيرسون" هي التي اقترحت الفكرة على الفريق الطبي.
ورغم استئصال قسم من دماغها بسبب إصابتها بالصرع الدائم، لا تزال "بيرسون" تعاني نوبات عنيفة لدرجة أنّ إحداها تسبّبت لها في سكتة قلبية، مما جعل الأطباء يرغبون في زرع غرسة لها لمحاربة هذا المرض المقاوم.
ووقتها قالت لهم "بما أنكم ستدخلون إلى دماغي لتضعوا قطباً كهربائياً وبما أنني مصابة أيضاً باضطراب الوسواس القهري، هل يمكنكم غرس قطب يساعدني في التغلب على هذا الاضطراب النفسي"؟
ويقول "رسلان": "لحسن الحظ أخذنا هذا الاقتراح على محمل الجد".
ولتصميم الجهاز، راقب الأطباء نشاط دماغها، من خلال إعطائها مثلاً مأكولات بحرية، وهي أحد أنواع الأطعمة التي تسبّب لها التوتر. وأتاح لهم ذلك تحديد "العلامات الكهربائية" المرتبطة بالوسواس القهري.
ويقول "رسلان" إن الشريحة المغروسة مبرمجة "لإحداث تحفيز فقط عندما ترصد هذه الإشارة". وفيما يعالج أحد البرامج الصرع يتولى الآخر معالجة اضطرابات الوسواس القهري.
وانتظرت بيرسون 8 أشهر قبل أن تلاحظ التغييرات الأولى في تصرّفاتها.
وتقول "بتّ سعيدة مجدداً ومتحمسة للخروج والعيش حياة طبيعية والوجود مع أصدقائي وعائلتي الذين انقطعت عنهم لسنوات".
وحظيت هذه العملية بإشادة في مجلة علمية. وتجرى حاليا دراسة في جامعة بنسلفانيا لمعرفة كيف يمكن تطبيق هذه التقنية على مرضى آخرين، بحسب "رسلان".
وتشكّل العملية مصدر أمل في الولايات المتحدة، حيث تطول اضطرابات الوسواس القهري نحو مليونين ونصف المليون شخص.
وتحظى الغرسات الدماغية عموماً باهتمامٍ متزايدٍ، فقد أعلنت شركة "نيورالينك" التي شارك في تأسيسها إيلون ماسك، الإثنين، أنها نجحت في إجراء أول عملية زرع شريحة دماغية لمريض.
وتشير الشركة الناشئة إلى رغبتها في استخدام هذه الشريحة لتتيح للبشر التواصل مع أجهزة الكمبيوتر، لكنها تسعى أيضاً إلى جعل المصابين بالشلل يعاودون المشي، والمكفوفين يستعيدون النظر.