"سل صيامك" مع أبي الجغرافيا الحديثة.. عالم عربي رسم أول خريطة صحيحة للعالم وأُطلق اسمه على جبال كوكب بلوتو

"سل صيامك" مع أبي الجغرافيا الحديثة.. عالم عربي رسم أول خريطة صحيحة للعالم وأُطلق اسمه على جبال كوكب بلوتو

هو أبو الجغرافيا الطبيعية والبشرية، عاش في القرن الثاني عشر الميلادي، وأشرف من صقلية على أول بعثة علمية جغرافية عرفتها الدنيا، فجاب رجالها أقطار العالم الوسيط، يجمعون المعارف عن الأرض وثرواتها وأهلها، وواضع أكثر من سبعين خريطة للأرض التي نعيش عليها، وصانع أول كرة أرضية من الفضة، إنه العالم العربي الشريف الإدريسي الذي أطلقت وكالة "ناسا" الأمريكية اسمه على سلسلة جبال على سطح كوكب بلوتو.

الشريف الإدريسي

هو مُحَمَّدٌ بن محمد بن عبدالله بن إدريس بن يحيى بن علي بن حمود الإِدْرِيسي الْهَاشِمِيّ الْقُرَشِيّ. يكنى بأبي عبدالله ويلقب بالشريف الإدريسي بسبب انتسابه إلى آل البيت، ولقب بالصقلي لأنه اتخذ جزيرة صقلية موطناً له بعد سقوط الدولة الإسلامية، ولقب بـ"سترابون العرب" نسبة للجغرافي الإغريقي الكبير سترابون، ولد في مدينة سبته بالمغرب عام (493 هـ/ 1100م)، وتوفي في صقلية(560هـ/ 1166م).

يُعتبر من كبار الجغرافيين في التاريخ ومن مؤسسي علم الجغرافيا الحديثة، كما كتب في الأدب والشعر والنبات ودرس الفلسفة والطب والنجوم في قرطبة. استخدمت مصوراته وخرائطه في سائر كشوف عصر النهضة الأوربية. حيث لجأ إلى تحديد اتجاهات الأنهار والبحيرات والمرتفعات، وضمنها أيضًا معلومات عن المدن الرئيسية بالإضافة إلى حدود الدول الأخرى.

نشأته وتعليمه

نشأ الإدريسي في سبته وتلقى التعليم في حداثة عمره على الطريقة الشائعة في المغرب، فحفظ القرآن والمتون وأشهر القصائد، ثم انتقل مع عائلته وهو صغير إلى الأندلس واستقروا في قُرطبة، فتلقى تعليمه في جامعتها بحيث درس الرياضيات والتاريخ والجغرافيا، كما أحاط من المعرفة بعلوم النقل كالفقه والحديث واللغة، إلى جانب إتقانه لعلوم الحساب، والهندسة، والفلك، والعلم بالأعشاب والطب وأحوال العالم السياسية، ولما بلغ السادس عشر من عمره أي في عام 510هـ/ 1116م قام بسلسلة من الأسفار إلى مواضع مختلفة في الأندلس وبعض بلاد المشرق العربي وآسيا الصغرى.

إقامته في صقلية

اختار الإدريسي الانتقال إلى صقلية بعد سقوط الدولة الإسلامية، لأن الملك النورماني في ذلك الوقت «روجر الثاني» كان محبًا للمعرفة. شرح الإدريسي لروجر موقع الأرض في الفضاء مستخدمًا في ذلك البيضة لتمثيل الأرض، شبه الإدريسي الأرض بصفار البيضة المحاط ببياضها تمامًا، كما تهيم الأرض في السماء محاطة بالمجرَّات.

أمر الملك الصقلي روجر الثاني له بالمال لينقش عمله خارطة العالم والمعروف باسم "لوح الترسيم" على دائرة من الفضة.

في إحدى المرات قدم وصفًا عن وضع السودان، وعن حالة مدن مثل "المواقع بدقة متناهية تمامًا، كما هي على أرض الواقع، مع أنها كانت فقط من خلال الاستماع إلى بعض القصص والكلمات. استخدم الإدريسي خطوط العرض أو الخطوط الأفقية على الخريطة والكرة الأرضية التي صنعها، استخدمت خطوط الطول من قبله إلا أن الإدريسي أعاد تدقيقها لشرح اختلاف الفصول بين الدول. دُمرت تلك الكرة خلال اضطرابات مدنية في صقلية بعد وفاة الملك «روجر الثاني». في جزيرة صقلية تفتقت مواهبه العلمية وقام بعمله الخالد الذي عرف به في التاريخ، وكانت صقلية في ذلك العهد قد خرجت من حكم المسلمين، وخضعت لحكم النورمان المسيحيين، وإن كان المسلمون يكونون فيها أكبر جالية من السكان غير المسيحيين، وكان ملوكها من النورمان وخاصة روجر الثاني الذي عاش الشريف في أكنافه، يتشبه بالمسلمين ويتظاهر بعاداتهم في اللباس والهيئة وشارات الملك، ويخالف عادة الإفرنج في كل ذلك.. وكان يكرم المسلمين ويقربهم وينتفع بخبرتهم ومعارفهم.. قال صلاح الدين الصفدي في ترجمة الشريف الإدريسي من كتابه "الوافي بالوفيات" عن الملك روجر الثاني: «"وهو الذي استقدم الشريف الإدريسي صاحب كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" ليصنع له شيئاً في شكل صورة العالم..".»

تحديد منابع النيل

حدد الإدريسي منابع نهر النيل، ففي موقع معين وضع نقطة تقاطع نهر النيل تحت خط الاستواء، وهذا هو موقعه الصحيح. قبل دخول مصر تلتقي روافد نهر النيل في الخرطوم عاصمة السودان حالياً، يتشكَّل نهر النيل من نهرين هما النيل الأبيض والنيل الأزرق، يجري هذان النهران عبر أراضي السودان ويلتقيان في الخرطوم التي تقع تحت خط الاستواء. إن تحديد موقع نهر النيل يُلغي نظرية بطليموس التي قالت إن مصدر نهر النيل هو تلة في القمر.

رحلاته

اشتهر الشريف الإدريسي بولعه بالبحار وحركتها، وقد كان ميناء سبتة في عهده يعرف حركة تجارية كبيرة، وكانت تجتذبه السفن التجارية الراسية في ميناء سبتة، وكان يعتمل في داخله شوق كبير لاستكشاف الدُّول التي كانت تُبحر منها وإليها هذه السفن، وسرعان ما تحوَّلت رغبته إلى حقيقة عندما رحل لمتابعة تحصيله العلمي في قرطبة، فترسخ لديه ميوله إلى العلوم الطبيعية خصوصاً في الجغرافيا والنبات.

ويعتبر الشريف الإدريسي أحد كبار الجغرافيين في التاريخ الإنساني، كما كان له اهتمام بالتاريخ، والأدب، وعلم النبات، والطب، والفلك.. أخذ العلم بسبتة وقرطبة، وزار الحجاز وتهامة ومصر، ووصل سواحل فرنسا وإنجلترا، وسافر إلى القسطنطينية وآسيا الصغرى. ثم عاش فترة في صقلية ونزل فيها ضيفًا على ملكها روجر الثاني، وقد عانى مدة طويلة من الغربة عن بلده سبتة. نستشف ذلك من شعر من نظمه يقول فيه:

ليـت شعــري أيـن قبـري ... ضــاع في الغربة عمـري

لم أدع للعين ما تشتـــاق.. فـــي بـــر وبـــحـر

مؤلفات الإدريسي

كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" هو كتاب كان نتاج رحلات الإدريسي ألفه في صقلية بناءً على طلب روجر الثانى، ضمن كل ما عرفه الأقدمون من معلومات زاد عليها ما اكتسبه هو و ما رآه ورصده في أسفاره ورحلاته وفيه أكثر من سبعين خريطة. تقول موسوعة "المعرفة" إن هذا الكتاب ظل مرجعاً للعلماء الأوربيون [و ربما أيضًا للعرب] لمدة زادت على ثلاثمائة سنة، أي حتى القرن السادس عشر الميلادي. ويعرف هذا الكتاب للأوربيين بكتاب روجر.

كما قام الإدريسي بتأليف العديد من الكتب التي تتناول النباتات، ومنها كتاب "الجامع لصفات أشتات النبات وضروب أنواع المفردات من الأشجار والثمار والحشائش والأزهار والحيوانات والمعادن وتفسير أسمائها بالسريانية واليونانية واللطينية والبربرية". ونلاحظ أن العدد الأكبر من الكتب النباتية كانت تتناول النباتات بغرض إثبات منافعها الطبية، ومعالجاتها الصيدلية.

نزهة المشتاق في اختراق الآفاق

كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، ألفه الإدريسي للملك روجر الثاني من صقلية، عام 1154، ويعتبر من أكثر خرائط العالم القديم تقدماً.

ألف الإدريسي كتابه المشهور (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) والمسمى أيضًا (كتاب روجر) أو (الكتاب الروجري)، وذلك لأن الملك روجر ملك صقلية هو الذي طلب منه تأليفه كما طلب منه صنع كرة من الفضة منقوش عليها صورة الأقاليم السبعة، ويقال إن الدائرة الفضية تحطمت في ثورة كانت في صقلية، بعد الفراغ منها بمدة قصيرة، وأما الكتاب فقد غدا من أشهر الآثار الجغرافية العربية، أفاد منه الأوروبيون معلومات جمة عن بلاد المشرق، كما أفاد منه الشرقيون، فأخذ عنه الفريقان ونقلوا خرائطه، وترجموا بعض أقسامه إلى مختلف لغاتهم ويعد هذا الكتاب فريد من نوعه استغرق تأليفه 15 عامًا حيث انتهى الإدريسي من تأليفه عام 1154م، ونهج فيه الإدريسي نهجاً جديداً عن غيره من الجغرافيين المسلمين فقد وصف العالم ككل ثم قسمه إلى سبعة أقاليم وكل إقليم إلى عشرة أقسام رئيسيه ثم وصف كل قسم ورسم له خريطة وتحاشى فيه الخلط بين التاريخ والجغرافيا وظل كتابه مرجعًا لعلماء أوروبا أكثر من ثلاثة قرون.

وفي كتاب (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) اشتهر الإدريسي بأنه هو الذي طور رسم الخرائط بطريقة أكثر دقة من الخرائط التي كانت معروفة من قبل. يمكن رؤية ذلك بوضوح في خرائطه، حيث لجأ إلى تحديد اتجاهات الأنهار والبحيرات والمرتفعات، وضمنها أيضًا معلومات عن المدن الرئيسية بالإضافة إلى حدود الدول .. وقد استخدم الإدريسي خطوط العرض أو الخطوط الأفقية على الخريطة والكرة الأرضية التي صنعها، وكانت خطوط الطول قد استخدمت قبل الإسلام، إلا أن الإدريسي أعاد تدقيقها لشرح اختلاف الفصول بين الدول. وإن خط العرض الذي رُسم اعتباطيًا على الخريطة، كان يستخدم عادة لتحديد الفصول وحالة الطقس شمال وجنوب خط الإستواء، لذا فإن مثل هذا التقسيم يوضح فهم الإدريسي للبلدان المختلفة، وهذا ما يشهد على تفوقه وعلو همته.

وصف جزر بحر الشمال

أشار الإدريسي في كتابه إلى أيرلندا العظمى (أيرلندا الكبيرة)، وتبعاً للإدريسي، "من أقصى آيسلندا إلى ما يعرف بأيرلندا الكبرى"، كان وقت الإبحار "يوماً واحداً". بالرغم من إشارة المؤرخين إلى أن الإدريسي والتوجه الشمالي لتقليل المسافات، إلا أن الموقع الوحيد الذي يعتقد أنه المقصود بهذه الإشارة، من المرجح أن يكون غرينلاند.

وصف التجارة الصينية

أشار الإدريسي إلى أن الجنكات (السفن) كانت تحمل الجلد، السيوف، الحديد والحرير. وأشار إلى أن المصنوعات الزجاجية الواردة من مدينة هانغتشو وحرير تشوانتشو أو «مدينة الزيتون» كما سماها العرب، من أفضل البضائع. في سجلاته عن التجارة الصينية، كتب الإدريسي أيضاً عن أسرة سيلا (إحدى الأسر التاريخية الكورية، وأهم شريك تجاري للصين في ذلك الوقت)، وكانت من أولى الأسر العربية التي تقوم بهذا. أدت إشارات الإدريسي إلى سيلا إلى قيام التجار العرب الآخرين بالبحث عن سيلا وتجارتها، وساهمت في إدراك العديد من العرب لسيلا باعتبارها البلد المثالي في شرق آسيا.

الإدريسي رسم أول خريطة صحيحة للعالم

قام الإدريسي برسم أول خريطة للعالم بناءً على أمر من الملك الصقلي روجر الثاني فكانت مدينة باليرمو هي المكان الذي نشر الإدريسي أول خريطة للعالم فيه، وهي تُعرف عند العرب بخريطة الإدريسي، و يقال أنها أول خريطة سليمة، (أي صحيحة) نعرف عنها وقد أخذ الإدريسي حوالي 15 عاماً في رسم هذه الخريطة نتاجاً عن رحلاته. وأمر له الملك بالمال عام 1138 لينقش عمله خارطة العالم والمعروف باسم "لوح الترسيم" على دائرة من الفضة تزن 400 رطل رومي في كل رطل 112 درهماً.

الإدريسي قضى على الخرافات الجغرافية التي سادت في أوروبا

تمثلت القرون الوسطى المظلمة في أوروبا في نوعية المعارف الجغرافية لدى خريطة الإدريسي، فأوروبا في ذلك الوقت كانت صورتها عن العالم تحكمها مجموعة أساطير وهمية وتصورات دينية فرضتها الكنيسة على المجتمع، وبعد ضياع تراث اليونان الجغرافي، حُرمت أوروبا من معارف الأوائل. وظلت آراء آباء الكنيسة الرافضة لكروية الأرض مسيطرة على العقول في القرون الوسطى، حتى جاء الإدريسي وأكد كروية الأرض ونشر الخرائط الصحيحة فأنار الطريق لأوروبا لبدء عصر الكشوف الجغرافية.

لماذا لم تترجم رحلة الإدريسي الكاملة؟

وترجمت رحلة الادريسي كاملة الى اللغة الفرنسية فقط، بينما هناك ترجمات جزئية منها في شتى لغات العالم. ولعل سبب ذلك يعود إلى ضخامة العمل، فكأن كل باحث غربي يهتم بأحد البلدان، يعود إلى ملاحظات الإدريسي حول موضوع أو بلد أو مدينة معينة فحسب من دون معالجة الرحلة بكاملها نظراً الى طولها ودقة تفاصيلها.

لماذا نقرأ خرائط الإدريسي بالمقلوب؟

صمم الادريسي خريطته على الطريقة العربية في ذلك الوقت، حيث بدأ بالجنوب في أعلى الخريطة، ثم انتقل الى الشمال في أسفلها، وهذا يعني أن خريطته ينبغي أن تقرأ بالمقلوب. تتكون مخطوطة الخريطة من 70 ورقة (33 × 21 سم) تصل إلى نحو 5 أمتار مربعة. وقام العالم الألماني كونراد ميلر بنشر نسخة ملونة منها سنة 1928، بعد أن بذل مجهوداً خارقاً من أجل تجميع أجزائها المختلفة، وترجمة الأسماء العربية الى الألمانية.

مشروع إعادة نشر خرائط الإدريسي

كرّس الباحث الإيطالي تيندارو غاتاني Tindaro Gatani، المقيم في زوريخ وصاحب فكرة إعادة نشر خريطة الإدريسي التي تعد أول خريطة للعالم، عقدين من الزمن لدراسة أعمال الإدريسي بسبب هذه الخريطة. و"غاتاني" أيضاً صقلي المولد والنشأة، حيث عاش الإدريسي وعمل في صقلية، وفكرته لإعادة نشر هذه الخريطة وتقديمها في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب سنة 2004، هو إشارة قوية إلى إسهامات العرب والمسلمين في تطوير المعارف الإنسانية من ناحية، ومن ناحية أخرى يرمز إلى وحدة الثقافات وتعاونها وليس صراعها وتطاحنها، وما أحوجنا اليوم إلى مثل هذه المشروعات التي تشدد على وحدة الحضارة الإنسانية لمواجهة مروجي نظرية صراع الحضارات.

وفاته

توفي الشريف الإدريسي وهو في السادسة والستين من عمره بجزيرة صقلية عام 560 هـ (1166م).

ظهور الإدريسي في الثقافة العامة

كان الإدريسي الشخصية الرئيسية في كتاب ألفه طارق علي بعنوان "سلطان في پالرمو".

كان الإدريسي شخصية رئيسية في أوپرا كارول تزيمانوسكي عام 1926 بعنوان "الملك روجر".

كان لأعمال الإدريسي تأثير كبير على الكتاب الأوروپيين مثل: مارينو سانتو الأكبر، أنطونيو مالفانته، يواخيم فرير وألونسو فرنانديز دى لوگو.

نظام الإدريسي، أحد أنظمة التموضع العالمي " GPS"، والذي طورته جامعة كلارك، سُمي على اسم محمد الإدريسي.

في 2010، كشفت حكومة موريشيوس عن خارطة لنصف الكرة الأرضية للإدريسي في نزهة المشتاق، عرضها عالم العلامات خال تورابولي، تكريماً لأعمال الإدريسي.

أطلقت وكالة ناسا الأمريكية اسم "جبال الإدريسي" على سلسلة جبال موجودة على سطح كوكب بلوتو.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org