في الثلث الأخير من فيلم (وبينهايمر) الذي أثار ضجة مؤخراً يقول بطل الفيلم (كيليان مورفي الذي قام بدور العالم الشهير روبرت أوبنهايمر مخترع القنبلة النووية) مخاطباً الرئيس الأمريكي حينها وبعد إلقاء القنبلة النووية على اليابان: "أشعر أن يدي ملطختان بالدماء"، غير أن الرئيس الأمريكي هاري ترومان يلتفت إليه ويقول: "هل تعتقد أن الذين ألقيت عليهم القنبلة الذرية سيسألون عمن صنعها؟ سيسألون عمن أمر بذلك. وهو أمر أنا قمت به".
يوافق اليوم الأحد 6 أغسطس 2023م يوم إحياء اليابان الذكرى الـ 78 لإلقاء الولايات المتحدة قنبلة ذرية على مدينة هيروشيما، ذلك الحدث المأساوي في ذاكرة الحروب العالمية، ومن هنا فإن هذا الفيلم وصف بأنه واحد من أهم الأعمال السينمائية على الإطلاق في مناقشة الصراع بين العلم وأخلاقيات الصراع، والمفارقات التي تحصل، وكذلك الوجه الأخر لعباقرة ساهموا في تطوير أسوأ سلاح إبادة بشري حتى الآن وصولاً لصراعهم مع ضمائرهم بعدما شاهدوا مدى البشاعة الناتجة عن استخدام تلك الأسلحة.
وكالعادة مع التقييم العالي جداً للفيلم الذي يكاد يكون تقييماً تاريخياً فاق 94% سارع الكثير من النقاد السينمائيين المتخصصين لتقديم رؤيتهم حوله، وهي رؤى اتفقت على الإبداع الفني في العمل، غير أن أبرز ما ورد في أغلب تلك الرؤى هو التركيز على إدارة الصراع الأخلاقي في الفيلم، ومحاولة تنقية صورة البطل من إطار مجرم القنبلة الذرية إلى عالم كان يقوم بما قام به مثيله في الدول الكبرى الأخرى.
من جوانب أخرى جاءت الإشادة العالية بجانب التصوير الواقعي للأحداث وصورة البطل في صراعه مع الضغوط الهائلة وإدارة ذلك بين أخلاقيات العالم وبين الاستجابة لضغوط إنتاج السلاح النووي وهو يدرك أبعاد ذلك. في لحظة ربما لم ترق لمن تابع الفيلم يقول وبينهايمر " “الآن أصبحت أنا الموت، ومدمر العوالم". وذلك بعد نجاح عمله في إنتاج قنبلة الدمار الشامل.
سحر البساطة قد يكون كافياً ومذهلاً. من هنا اعتبر النقاد تصوير الفيلم بأنه إنجاز تاريخي لقيام المخرج بتصوير أغلب المشاهد بدون استخدام مؤثرات بصرية، وتحقيق تأثير مذهل رغم ذلك. وكذلك استخدام تقنية الأبيض والأسود في قصة فيلم أوبنهايمر بعدسة كاميرات الأيماكس في تصوير بعض المشاهد، وهو ما اعتبر إنجازًا فنيًا جديدًا ومميزًا في عالم السينما وربما غير مسبوق.
كما يرى بعض النقاد أنه من أسرار شهرة الفيلم السمعة الفنية العالية للمخرج البريطاني كريستوفر نولان الذي هو كاتب ومنتج ومخرج سينمائي حصدت أرباح أفلامه فوق 5 مليارات دولار وبلغ مجموع ترشيحاته لجوائز الأوسكار ستة وعشرين ترشيحاً، منهم لسبع جوائز فاز بها. يقول الناقد أسامة صفار حول ذلك: "قرر المخرج كريستوفر نولان في هذا الفيلم منح جمهوره إجازة إجبارية من الترفيه الخالص، ليتصدى في فيلمه الجديد لواحدة من أهم محطات البشرية وأكثرها جدية، حيث يحكي بطريقته المميزة السيرة الذاتية لصانع القنبلة النووية بما احتوته من دراما عنيفة وتناقضات تفضي إلى ضحك كالبكاء".
هذا فيما يرى نقاد آخرون أن الفيلم لا يحكي فقط قصة مساهمة العالم "جي روبرت أوبنهايمر" في صناعة القنبلة النووية وإشرافه على مشروع مانهاتن لصناعتها فقط، لكنه يتطرق أيضاً إلى ذلك الصراع الذي عاشه بين العلم والأخلاق خلال حياته كلها، والمفارقة "التي جعلت عالمًا عبقريًا مثله يقع في رهان فاوست الشهير، فيبيع روحه وعقله لشيطان صناعة القنبلة النووية، ويقضي سنواته الباقية محاولاً التكفير عما فعله، فتحاكمه الدولة الأمريكية على نواياه. كما يشيدون ببراعة المخرج في التناوب في الحركة في الزمن فهو يتنقل بين المستقبل والحاضر والماضي وبالعكس لذلك مما يحتاج ذكاء المتلقي في الربط في وصف صراع ذهني وأخلاقي ووجداني وإنساني".
كما استطاع المخرج ببراعة تجنب أي مشاهد من إلقاء القنبلة النووية على هيروشيما، وبطريقة رائعة، بل لم يشعر المشاهد بذلك إلا من خلال سياق الحوار. وهو أمر مهم لعدم الدخول في مسار قد يغير المسار الوثائقي للشخصية، فقتل أكثر من 200 ألف إنسان في لحظات هو أمر سيخرج الفيلم من إطاره كفيلم سيرة ذاتية وبشكل تام.
أما أبرز اللحظات الفارقة فكانت هي اللحظة التي استيقظ فيها ضمير البطل فجاءت بشكل صادم، ففي وسط الاحتفاء بنجاحه تدخل رؤية المخرج في إظهار الوجوه المحتفلة بشكل يربطه بالمأساة الكارثية بحيث يستنتج المشاهد السبب بوضوح وقد يتحول من التعاطف معه إلى شعور آخر مختلف تماماً.
على كل حافظ الفيلم على حيادية عدم تبرير ولا تأييد رغبة أمريكا في إنهاء الحرب بطريقة بشعة. بل وظهرت شخصيات العلماء في انحياز لأخلاقيات العلم من خلال نقاشات عديدة وإبراز الضغوط التي تتعرض لها.
و أخيراً يرى بعض النقاد أن رؤية المخرج قد تكون أرادت أيضاً أن تقدم واقعية مقولة إن "التاريخ يكتبه المنتصرون"؛ وأيضاً إن محاكمة البطل وقبلها دفعه لصناعة القنبلة النووية وصولاً لصحوة ضميره كلها مفارقات تلتقي وتبتعد لتضع المشاهد في مشاعر مضطربة يصعب معه أن يضع حكماً أخلاقياً نهائياً بخلاف الاتفاق على أن هذا الفيلم واحد من أعظم الأعمال في تاريخ السينما.
في عام 1926، يكافح روبرت أوبنهايمر البالغ من العمر 22 عامًا مع الحنين إلى الوطن والقلق أثناء دراسته في مختبر كافنديش في كامبريدج، ولكنه يعود للولايات المتحدة بعد حصوله على شهادة الدكتوراه في الفيزياء، مقرراً تعميق الفيزياء الكمية في بلده.
بعد ذلك يستجيب أوبنهايمر لتجنيد الجنرال ليزلي جروفز له لقيادة المشروع السري لبناء القنبلة النووية ويضغط لتأكيد فرضية أن النازيين يعملون حاليًا على برنامج للأسلحة النووية، ليتم تشكيل فريقه العلمي لإنشاء القنبلة النووية بسرية بزعم إنقاذ العالم على الرغم من الآثار العالمية المحتملة.
بعد استسلام ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، يتم التشكيك في المشروع لكنه يستمر ثم يقرر الرئيس هاري ترومان إلقاء قنابل ذرية على مدينتي هيروشيما وناغازاكي في اليابان. ويتم الاحتفاء بأوبنهايمر باعتباره "أب القنبلة الذرية"، وعبثاً يحاول الرئيس الأمريكي تخفيف إحساس أوبنهايمر بالذنب إلا أنه لم يتخلص من ألم ذلك، بل ويقوم بعدها بمعارضة التطور النووي المستقبلي خاصة قنبلة الهيدروجين، في حين يتم استغلال روابط أوبنهايمر باليسار لمحاولة إدانته في جلسة استماع ويتم سحب ترخيص أمانه. ولكن في عام 1963م يتسلم أوبنهايمر جائزة إنريكو فيرمي من الرئيس ليندون بي.
جمع هذا العمل بين العناصر الإبداعية في أغلبها، بداية من القصة والمخرج واختيار الأسماء التي بعضها أسماء شهيرة جداً لكنها قبلت بأدوار متواضعة لإدراكها قيمة العمل وجوهره.
القصة مقتبسة من كتاب السيرة الذاتية الحاصل على جائزة «بوليتزر» بروميثيوس الأمريكي الذي ألفه الكاتبان كاي بيرد ومارتن ج. شيروين. ويروي الفيلم حياة عالم الفيزياء النظرية روبرت أوبنهايمر ومراحل دراسته وإدارته لمشروع القنبلة النووية خلال الحرب العالمية الثانية، ثم إخضاعه لجلسة الاستماع الأمنية سنة 1954م. الفيلم من بطولة النجم الشهير كيليان مورفي بدور أوبنهايمر، وروبرت داوني جونيور بدور ستراوس، وإيميلي بلنت ومات ديمون ورامي مالك وكينيث براناه. تكلفة الإنتاج: 100 مليون دولار.