
عقب فتح الملك عبدالعزيز مكة المكرمة في أكتوبر 1924م، وتوطيد سلطته فيها بعد أن دخلها في الرابع من ديسمبر 1924م؛ أمر قواته بالزحف على جدة لإرغام الملك علي بن الحسين على مغادرة الحجاز بعد أن فرّ بقواته من مكة إلى جدة أثناء تقدم جيش الملك عبدالعزيز نحو مكة ووصوله إلى الزيمة على بعد 44 كيلومترًا من مكة.
وعندما وصل جيش الملك عبد العزيز إلى مشارف جدة، فوجئ بأن الملك علي بن الحسين حصن جدة تحصيناً شديداً وأحاطها بالخنادق والأسلاك الشائكة، كما وصلته امدادات ضخمة من أبيه وأخيه في الأردن تشمل أسلحة وأموالاً، فحاصر جيش الملك عبدالعزيز جدة بعد أن عسكر بقيادته في منطقة أبرق الرغامة في يناير 1925م.
استمر الحصار على جدة، وفي أواخر شهر ذي القعدة 1343ه/ يونيو 1925م؛ عاد الملك عبدالعزيز إلى مكة لأداء فريضة الحج، وعقب الانتهاء من فريضة الحج قرر الملك عبدالعزيز تشديد الحصار على الملك علي بن الحسين في جدة فطلب إمدادات من الرياض، فوصلت قوات كبيرة بقيادة الأمير فيصل بن عبدالعزيز وانضمت إلى جيش والده في أبرق الرغامة في 30 نوفمبر 1925م.
وأثناء إقامة الملك عبدالعزيز في السابع عشر من ديسمبر 1925م، توجه فجأة إلى خطوط الجبهة الحربية في جدة، بعد حدوث تطورات عسكرية مهمة اضطرت الملك علي بن الحسين إلى مراجعة موقفه وحسم أمر بقائه في جدة، وقد نشرت صحيفة "أم القرى" خبر توجه الملك عبدالعزيز إلى جبهة جدة في عددها رقم 51 الصادر يوم الجمعة 18 ديسمبر 1925م في باب "حوادث محلية".
وتحت عنوان "سفر عظمة السلطان إلى الجبهة"، ذكر الخبر ما يلي: "ركب صاحب العظمة السلطان (الملك عبدالعزيز في تلك المرحلة) مساء أمس إلى الجبهة الحربية تقلّه السيارة وتظله العناية الإلهية، وترفرف من بين يديه ومن خلفه أعلام النصر وشارات الفخر وإشارات الفتح المبين.
والمعروف لنا والذي راجت أخباره من أقصى البلاد إلى أقصاها؛ أن لحركة عظمته علاقة أكيدة بحركة تسليم جدة، ومن المنتظر أن يتم ذلك اليوم أو غداً إن لم يكن قد تم بالفعل، والجريدة ماثلة للطبع.
ولا شك أن جميع العقلاء ومحبي السلام وحقن الدماء والحرص على الأرواح البشرية، يحمدون من عظمة السلطان هذه الخطة السلمية التي انتهت بحفظ الدماء في الأجسام وصيانة الأجسام في الأرواح، ولا شك أنهم يقدرون الآن فقط صحة السياسة التي وطن عظمة السلطان عزمه عليها من أول يوم وطأ قدمه الديار المقدسة؛ وهي معالجة الأمر بالصبر الجميل والتريث وعدم الجري وراء الأهواء المختلفة والآراء المتباينة التي كانت تجتمع كلها عند نقطة واحدة هي نقطة استنهاض عظمته لاقتحام خط النار للقضاء على هذه المهزلة في ساعة من نهار أو هزيع من الليل.
ما كان عظمة السلطان أمام تحريض إلا صابرًا صبر الكرام، وما كان ليزيد الإغراء إلا تدبراً وإيثاراً لها، قضي الأمر الذي فيه تستفتيان. نعم قد وطن عظمته نفسه على بادئ ذي بدء على هذه الفكرة، وكأنه كان في كل خطوة يقرأ صحيفة المستقبل المجهول، وكلما مر يوم ازداد يقيناً واعتقاداً برجوح رأيه، ونضوج فكرته؛ فبرهنت الأيام على ذلك ودلّت الحوادث البعيد منها والقريب على أنه رجل الدنيا وواحدها، فحبذا الرأي المختمر، وأنعم بالعقل العامر والنفس الكبيرة التي تعمل كثيراً ولا تعلن كثيراً أو قليلاً.
ونحن لا يسعنا في هذه الساعة الأخيرة والأمر أصبح واضحاً، بعد أن غم على الناس جميعاً؛ إلا أن نقدم خالص تهنئة للشعب الحجازي الكريم على النصر والظفر العظيم يجر من ورائه المغنم كل المغنم في بلد الله الحرام وجيرانه الكرام، وما النصر إلا من عند الله".
وصدق ما تنبأت به صحيفة أم القرى، فقد كان سبب توجه الملك عبدالعزيز إلى جبهة جدة توقيع اتفاقية تسليم جدة التي بموجبها تنازل الملك علي بن الحسين عن حكم الحجاز وغادر جدة، وأنهى الملك عبدالعزيز حصار قواته للمدينة، ووقعت الاتفاقية في يوم الخميس 17 ديسمبر في نفس يوم مغادرة الملك عبدالعزيز لمكة المكرمة، وأثناء طباعة الصحيفة كما تكهنت، ويمثل الخبر الذي نشرته "أم القرى" توثيقاً لحدث مهم ويوم مهم من أيام توحيد المملكة الذي قاد مسيرته الملك عبدالعزيز طيلة سنوات طويلة.