حكايات رمضانية.. "المتولي" بلغ راتبه 500 دولار ليرعى "الفوانيس والقناديل" منذ ألف عام

"الفاروق" أول من أمر بالقناديل
حكايات رمضانية.. "المتولي" بلغ راتبه 500 دولار ليرعى "الفوانيس والقناديل" منذ ألف عام
تم النشر في

يعد الفانوس والقناديل مظهرًا رمضانيًا خالصًا تتزين بهما المساجد والطرقات وحتى منازل المسلمين الآن، فما قصة ظهور الفانوس والقناديل؟!

روى الإمام ابن الجوزي في كتابه "المنتظم" أن علي بن أبي طالب خرج في أول ليلة من شهر رمضان، فسمع القراءة في المساجد ورأى القناديل تُزهِر فقال: "نوَّر الله لعمر بن الخطاب قبرَه كما نوَّر مساجد الله تعالى بالقرآن".

وبذلك يصبح أول من أمر بإنارة المساجد وعلق المصابيح بالمسجد هو عمر بن الخطاب لما جمع الناس في التراويح على إمام واحد منذ ألف وأربعمائة عام، واستمر الحال وزادت القناديل والمصابيح في المساجد حتى أصبحت لها حصة من بيت مال المسلمين.

وفي أوائل الدولة العباسية بدأ الناس يتوسعون في تعليق القناديل في المساجد بمناسبة دخول وأول من أمر بقناديل في المساجد في شهر رمضان هو "الفضل بن يحيى البرمكي" لما كان واليًا للعباسيين على الجناح الشرقي من دولتهم عام 192 هجرية.

وهذا يدل على بطلان الرواية المتناقلة في كلام كثيرٍ من الباحثين المعاصرين، والقائلة إن أصل فوانيس رمضان بدأ مع دخول الخليفة الفاطمي المعز لدين الله عاصمته القاهرة في مصر، ذلك أن إشعال القناديل في رمضان بدأ منذ زمن عمر وتخصيص قناديل معينة برمضان مذكور في كتابي "أخبار مكة" للأزرقيّ و"أخبار مكة" للفاكهيّ، وكلاهما توفي قبل ميلاد المعز، وللحق فإن للمصريين شأنًا كبيرًا لا ينكر فيما يتعلق بالأنوار الرمضانية، سواء القناديل أو الفوانيس.

والفرق بين "الفانوس" و"القنديل" أن القنديل يوقد بالزيت وغالبًا ما تصفه المصادر بأنه مصنوع من الزجاج، بينما يوقد "الفانوس" بالشمع.

ويبدو أن مسلمي مصر زادوا على إضاءة قناديل رمضان الزيتية إيقاد الفوانيس الشمعيّة تأثّرًا بجيرانهم الأقباط، وصاروا يتنافسون في عملها وشرائها وتحصيلها قبل رمضان كما يفعل القبط على هذا النحو من الجودة والإتقان والجمال الذي وصفه المقريزي بقوله "فلا عجب أن تلقى الرواج والانتشار والتطوّر عامًا بعد عام، ثم غلب المسلمون على الاسم حتى اقترن برمضان حصرًا أو كاد".

كما تدل وقائع تاريخية مبكرة على أن المسلمين استخدموا الفوانيس في إضاءة المساجد في رمضان قبل نشأة الدولة الفاطمية.

وبالعودة إلى قناديل رمضان بالمساجد حتى صارت شعارًا لرمضان يميزه عن شهور السنة ومواسمها، ومن ذلك ما ذكره ابن جبير الأندلسي -في رحلته- ناقلاً مشاهداته الرمضانية بالمسجد الحرام حين زار مكة، فوصف لنا احتفال أهلها بدخول رمضان سنة 579هـ بقوله: "ووقع الاحتفال في المسجد الحرام لهذا الشهر المبارك.. من تجديد الحُصر- جمع حصير- وتكثير الشمع والمشاعيل... حتى تلألأ الحرم نورًا وسطع ضياءً".

وممن ذكر استقبال رمضان بالمشاعل والفوانيس والشمع ابن بطوطة 779هـ في رحلته، فحين حطّ رحاله بمدينة أبيار شمالي مصر شهد معهم ما يسمونه "يوم الركبة"، وهو يوم يركب فيه قاضي المدينة وأعيانها، ويتبعهم "جميع من بالمدينة من الرجال والنساء والعبيد والصبيان، وينتهون إلى موضع مرتفع خارج المدينة.. وقد فُرِش.. بالبُسُط والفُرُش، فينزل فيه القاضي ومن معه فيرتقبون الهلال، ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب وبين أيديهم الشمع والمشاعل والفوانيس، ويوقِد أهل الحوانيت بحوانيتهم الشمع".

وذكر الحافظ ابن حجر محادثة بينه وبين السلطان الأشرف برسباي حاكم مصر عام 841 هـ، تدل على رسوخ عادة الاستدلال بالفانوس على وقت السحور بين الناس، حيث قال: "تكلمت مع السلطان في ألا يطفأ القناديل في رمضان إلا قـبيل طلوع الفجر؛ لما يحصل للناس من الإجحاف ممن ينام ثم يستيقظ عطشان، فلا يجد القناديل تقاد فيظن أن الأكل والشرب حُرّم، وليس كذلك، فوافق السلطان على ذلك".

وكان "صاحب القناديل" هو متولي وظيفة العناية بإنارة المساجد، وقد حفظت لنا كتب التاريخ أسماء بعض متوليها.

وكان الأمويون أسرع حكام المسلمين إلى بذل الزينة الفاخرة في المساجد، ومن ضمنها القناديل اقتداءً بمؤسس دولتهم معاوية.

وربما كان منشأ ذلك أن ملكهم تأسس في منطقة الشام التي هي أقرب إلى حضارات من سبقهم من الملوك، أو لأنهم كانوا أوائل ملوك الإسلام المترفين في حياتهم، فلم يبخلوا على المساجد بما يليق بها من تنوير وتزيين.

وكان المسجد الأقصى يزين بسلاسل للقناديل 400 سلسلة إلا خمس عشرة، منها 230 سلسلة في المسجد، والباقي في قبة الصخرة، وذرع السلاسل أربعة آلاف ذراع، ووزنها 43 ألف رطل بالشامي، وفيه من القناديل خمسة آلاف قنديل وكان يسرج فيه مع القناديل ألفا شمعة في ليالي الجمع، وفي ليلة نصف رجب وشعبان ورمضان وفي ليلتي العيدين. وكل ذلك عمل في أيام عبدالملك بن مروان.

وكان الملوك والولاة والأمراء يهدون القناديل إلى المسجد الحرام والمسجد النبوي، فتعلّق في سقوفهما وتصبح منقبة تذكر لمهديها منهم، كما ذكر السمهودي، وكانت بالمسجدين المكي والمدني خزانة خاصة لحفظ القناديل والفوانيس، فقد وصف الرحالة الفارسي ناصر خسرو (ت 481هـ) -في رحلته "سفر نامه"- أنه رأى في شرق المسجد الحرام بمكة "بناءً مستطيلاً عليه ثلاث قباب يسمى خزانة الزيت به الشمع والزيت والقناديل".

وكان هناك شخص يطلق عليه "متولي" مهمته رعاية قناديل إضاءة المساجد، وله راتب شهري مجز مقابل عمله، فمؤرخ المدينة النبوية السمهودي يخبرنا في كتابه "خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى" أنه لم يزل راتب صاحب زيت المسجد 90 دينارًا، وهو ما يساوي الآن 500 دولار أمريكي تقريبًا من بيت المال، وعليه فيها ما تكسّر من القناديل، كما رصدت مصاريف لصيانة هذه الإنارة حتى إن "المقريزي" يورد في "الخطط والآثار" بنود إحدى الوقفيات المسجدية، وتضمنت مبلغًا "لمسح القناديل يساوي نصف دينار".

والتحقت كلمة الفانوس وهى إغريقية، بكلمة القنديل، وكلاهما مع تطور اللهجات واللغات تشير إلى إحدى وسائل الإضاءة.

ويظل الفانوس أو القنديل رمزًا خاصًا بشهر رمضان حيث انتقل هذا التقليد من جيل إلى جيل، وتعد بخارى وبغداد والقاهرة من أهم المدن الإسلامية التي ازدهرت فيها هذه الصناعة، وظلت صناعة الفانوس تتطور عبر الأزمان حتى ظهر الفانوس الكهربائي والمتحرك وغيرها.

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org