تم شطب القضية

تم شطب القضية

ما زلتُ من أشد المعجبين بالحراك التقني الذي تنتهجه وزارة العدل. ومع أنها تجمع بين الوزارة الخدمية والرقابية، وعما قريب الإنتاجية، إلا أنها استطاعت إلى حد كبير احتواء الجموع الغفيرة للمتقاضين، مع تقديم الخدمة القيمة والسريعة لهم، حتى في أحنك الظروف، التي كان آخرها (التقاضي عن بُعد) مواكبة لاحترازات كورونا.

هذه الخدمة الإلكترونية التي تُعد نقلة خيالية في مرفق القضاء على مرّ العصور كان يمكن لها أن تصل لمرحلة التمام والكمال فيما لو أنها استطاعت التخلص من بعض الشوائب القديمة!!

حين يلجأ المظلوم للمحكمة يكون قد استنفد كل الحلول الودية في سبيل الوصول لحقه؛ فيرتمي مستجيرًا بحضن القضاء الدافئ، الذي ينتظر منه احتواءه، والطبطبة عليه، والانتصار له، لا مطالبته بالابتعاد لمجرد خطأ أو خلل تقني غير مقصود، وربما لا ذنب له فيه!!

لا أحد ينكر الجهود الجبارة التي تقدمها بوابة العدل الإلكترونية (ناجز) في تعزيز سرعة المرافعة والفصل بالدعاوى، مع الحفاظ على الضمانات القضائية.. ولا أحد ينكر أبدًا فضلها في معالجة الكثير من العوائق التي أهدرت وقت وجهد المتخاصمين والمحكمة.. ولا أحد ينكر أيضًا مساهمتها بتذليل العديد من الصعوبات، مثل المواعيد البعيدة، وتعارض الجلسات، وأعباء السفر.. لكنها في المقابل بدت لبعض المتقاضين البسطاء أو الكبار في السن كالقطار السريع الذي لا ينتظر طويلاً بمحطة المغادرة، ومع ذلك يطلب منهم جميعًا اللحاق بالرحلة، والصعود للمقصورة، وإلا فاتهم قطار العدالة!!

من تلك الشوائب العالقة بثوب العدالة الأبيض صعوبة الوصول للقاضي وتوضيح الدعوى له بإبراز القرائن والرسائل المتوافرة، مع التقدير البالغ لمشاغلة، ومع التقدير لتبادل الإيميلات أو المرافعة المرئية أو الكتابية، التي قد لا تكفي لتبيان الحقيقة كاملة؛ إذ تقتصر خدمة (مواعيد) التي تتيح الحضور للمرفق العدلي فقط لمن يرغب بإجراء خدمة غير متوافرة ضمن الخدمات الإلكترونية في بوابة (ناجز)، أما غير ذلك فحتى لو أخذت موعدًا لأي سبب آخر لا تتم الموافقة، ولا يسمح لك بالصعود لمقر الدائرة القضائية، حتى لو حضرت لبهو المرفق العدلي بموعد مسجل!!

من الأمور الملاحظة أيضًا: تكرار تسبيب الأحكام بعبارة (استنادًا لإقراره). وسواء كان المحكوم عليه المدعي برفض الدعوى، أو المدَّعى عليه بإلزامه بالسداد، فقد يكون في الحالتين إنسانًا جاهلاً بالمرافعة؛ وبالتالي لا يصح توجيهه بسؤال عادي لإجابة محددة، غالبًا تكون (نعم)، ثم تحسب عليه كإقرار. وحين يحاول المسكين تدارك خطئه لا يُقبل منه، ويختتم تسبيب الحكم بعبارة (لا عذر لمقر)!!

كذلك لا بد من تهدئة سرعة قطار العدالة وإلا فإن مقاعده ستكون محجوزة بالكامل للمحامين و(الدعوجية) المتمرسين، بينما يعاود الناس البسطاء قص تذاكر جديدة على أمل اللحاق برحلة العدالة القادمة.

أيضًا يفترض أن يكون التقاضي عن بُعد -كما قلنا سابقًا- عونًا للمرافعة بالمجلس الشرعي لا بديلاً كليًّا له، وأن يفعَّل أكثر خط الدعم الفني للتقاضي الإلكتروني على الرقم 1950؛ ليواكب التطور الحاصل، ويخدم أكبر شريحة من العالقين في وقت قياسي!!

وأخيرًا وليس آخرًا: بعض المتقاضين غالبًا إما أميون أو من ذوي التعليم المتوسط، ومع هذا تتم محاسبتهم على الانتظام بمواعيد وإجراءات التقاضي الإلكتروني، وكأنهم مهندسو تقنية معلومات (IT). مع أن غالبيتهم قدَّم الدعوى تقنيًّا بالاستعانة بكشك (العرضحلجية)، أو بفزعة قريب أو صديق لديه خبرة بالتقنية، مع أخذ المشورة القانونية لمرة واحدة من محامٍ (فاعل خير)، لكن حين ورده (رابط) الجلسة كان وحيدًا، ولم يحسن التعامل معها، مع افتراض أن الشبكة قد تكون ضعيفة، أو الموقع نفسه يكون معلقًا. وهذه أسباب خارجية، تنفي عنه المسؤولية التقصيرية. وبدلاً من حصوله على حكم نافذ، يعوضه سنوات المطالبة العجاف، ترده رسالة محبطة من المحكمة مفادها (تم شطب القضية)!!

أخبار قد تعجبك

No stories found.
صحيفة سبق الالكترونية
sabq.org