يبدو التناقض بين براعة الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على "حزب الله"، وعدم اليقين بشأن استراتيجيته طويلة الأجل في لبنان؛ هو أحدث مثال على هشاشة في قلب فن الحكم الإسرائيلي، وفقًا لشخصيات عامة ومحلّلين إسرائيليين؛ فبالنسبة لصديق وعدو على حد سواء، تبدو إسرائيل قوية من الناحية التكنولوجية، لكنّها ضائعة استراتيجيًّا. إنها قادرة على القيام بأعمال تجسس غير عادية، فضلًا عن تعبيرات قوية عن القوة العسكرية، لكنّها تكافح لربط هذه الجهود بأهداف دبلوماسية وجيوسياسية طويلة الأجل.
وقال "إيهود أولمرت" رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق: "ترى تطور العقول التكنولوجية لإسرائيل والفشل التام للقيادة السياسية في تنفيذ أي تحركات ناتجة، إنهم منشغلون ومهووسون بمخاوفهم لدرجة أنهم لا يستطيعون فعل أي شيء على أساس استراتيجي أوسع"؛ وفقًا لصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية.
تسلّلت أجهزة الأمن الإسرائيلية إلى شبكات الاتصالات التابعة لـ"حزب الله"، وقامت بتخريبها بتفجير أجهزة الاستدعاء وأجهزة لاسلكية أخرى هذا الأسبوع، لكن القيادة الإسرائيلية تبدو غير متأكدة من كيفية احتواء التنظيم على المدى الطويل، وقامت إسرائيل بعدة مهام واغتيالات سرية داخل إيران، كان آخرها زعيم حماس إسماعيل هنية من خلال التسلل إلى دار ضيافة تحميها المؤسسة الأمنية الإيرانية. وفي الوقت نفسه تجنبت تقديم التنازلات السياسية اللازمة لإقامة تحالفات رسمية مع معظم خصوم إيران في المنطقة.
وقصفت القوات الجوية الإسرائيلية غزة، ودمرت الكثير من النسيج الحضري في القطاع، وقتلت كبار قادة حركة "حماس"، لكن لم تصدر الحكومة الإسرائيلية خطة مفصلة وقابلة للتطبيق لمستقبل غزة بعد الحرب، والنتيجة هي حملة عسكرية بطيئة ومتكررة في غزة يقوم فيها الجنود الإسرائيليون بشكل متكرر بالاستيلاء على جيوب الأرض نفسها ثم الانسحاب منها، دون تفويض إما بالتمسك بالأرض أو الشروع في نقل السلطة إلى قيادة فلسطينية مختلفة.
وجاءت حملات إسرائيل بتكلفة باهظة، من خلال قتل عشرات الآلاف من المدنيين في غزة، بالإضافة إلى عدة مئات من اللبنانيين في ضرباتها على المقاتلين، أثارت إسرائيل غضبًا دوليًّا، ووجهت اتهامات بالإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية، وشوهت مكانتها العالمية دون تدمير "حماس" بشكل قاطع، ناهيك عن "حزب الله".
إن التفكير المختلط الذي تعاني منه إسرائيل مستمدّ جزئيًّا من صدمة أكتوبر "تشرين الأول" كان هجوم "حماس" هو أكثر الأيام دموية في تاريخ إسرائيل، وربما ترك قادة إسرائيل يسعون لتحقيق انتصارات قصيرة الأجل للتكفير عن هفواتهم في ذلك اليوم، على حساب التخطيط طويل الأجل لمستقبل إسرائيل.
ومع صدمة العديد من الإسرائيليين جراء الهجوم، يخاطر قادتهم بفقدان شعبيتهم وتشويه إرثهم من خلال الترويج لتسويات مثيرة للجدل لإنهاء حروب إسرائيل المختلفة.
وبالنسبة لبنيامين نتنياهو: يجب إعطاء الأولوية لأمن إسرائيل بأي ثمن، ويجب تشويه سمعة "حماس" و"حزب الله" لاستعادة الشعور بالردع والمناعة، الذي فقدته إسرائيل في 7 أكتوبر قبل التوصل إلى تنازلات دبلوماسية، لكن بالنسبة لمنتقدي "نتنياهو"، لا يمكن تحقيق الأمن الحقيقي دون رؤية دبلوماسية يمكن أن يقبلها حلفاء إسرائيل وحلفاؤها المحتملون؛ فهم يجادلون بأن العمليات الإسرائيلية الناجحة ضد "حماس" و"حزب الله"، وإيران لن يكون لها تأثير محدود على المدى الطويل إلا إذا ظلوا منفصلين عن استراتيجية متماسكة.
وأدت المواجهة في غزة إلى تمديد الحرب على طول الحدود الإسرائيلية اللبنانية؛ حيث يقول "حزب الله": إنه سيواصل القتال حتى يتم التوصل إلى هدنة بين إسرائيل و"حماس"، ولا تزال تحركات إسرائيل تبدو غير حاسمة، ولا تصل إلى حدّ النهاية الحاسمة للمأزق من خلال القوة أو الدبلوماسية، فمن ناحية تجنب "نتنياهو" الأمر بغزو بري للبنان، ومن ناحية أخرى رفض هدنة في غزة يمكن أن تنهي حرب لبنان من خلال الوساطة.
"إلى أين هو ذاهب؟ كيف ينهي الحرب؟"؛ سأل "رابينوفيتش" السفير السابق: "لم تتم الإجابة عن كل هذه الأسئلة الأساسية، وفي بعض الحالات لم يتم طرحها حتى في الخطاب العام"، وبالنسبة لـ"أولمرت" فإن افتقار إسرائيل للاستراتيجية يمتد إلى ما هو أبعد من "نتنياهو"، فالمشكلة متجذرة في إحجام المجتمع الإسرائيلي ومؤسسته عن معالجة معضلة داخل إسرائيل أو حتى الاعتراف بها في بعض الأحيان، مسألة السيادة الفلسطينية.