تحظى انتخابات الرئاسة الأمريكية باهتمام عالمي ينعكس على مختلف الأوساط؛ لما تمثله الولايات المتحدة الأمريكية من ثقل دولي سياسي وعسكري واقتصادي وتقني، جعلها طرفًا مؤثِّرًا في كل القضايا المرتبطة بالأمن والسلم الدوليين والنزاعات الإقليمية؛ مثل الحرب الروسية الأوكرانية، وحرب إسرائيل على قطاع غزة ولبنان، وكذلك قضايا التجارة والاقتصاد العالمي والمناخ.
فالانتخابات الأمريكية تهمّ روسيا وأوكرانيا بشكل كبير؛ فقد أعلن المرشح الجمهوري للرئاسة دونالد ترامب أن الرئيس "فولوديمير زيلينسكي" في أوكرانيا هو السبب في غزو روسيا، ويخشى الأوكرانيون أن يجبرهم الرئيس "ترامب" على إبرام صفقة سلام سريعة وقذرة لصالح روسيا، ويأملون أن تتولّى "كاملا هاريس" الرئاسة لتستمرّ في دعمهم في ساحة المعركة، ويريد "بوتين" إبرام صفقة، شيء يمكنه أن يطلق عليه انتصارًا، ويعتقد أن أوكرانيا هي دمية للولايات المتحدة؛ لذلك يعتقد أنه لا يمكنه الحصول على هذه الصفقة إلا في مفاوضات مع الرئيس الأمريكي، لقد أيد "هاريس" علنًا، وقد يبدو ذلك غير صادق أو غير بديهي، لكن "بوتين" قد يعتقد أنه يمكنه القيام بأعمال تجارية معها؛ وفقًا لصحيفة "نيويورك تايمز".
وسيصبح الفائز التالي في الولايات المتحدة صقرًا بشأن الصين، لكن الصينيين في بكين منقسمون حول أي مرشح سيكون أفضل للصين، وتتمحور المقايضة حول قضيتين: التعريفات الجمركية وتايوان. ويدرك المسؤولون الاقتصاديون الصينيون جيدًا أن "ترامب" دعا إلى تعريفات جمركية شاملة على صادرات الصين، والتي يمكن أن تشكل تهديدًا خطيرًا لاقتصاد الصين، إنها دولة تعتمد بشكل كبير على الطلب الأجنبي، وخاصة من أمريكا؛ للحفاظ على تشغيل مصانعها وتشغيل عمالها، وخلق التصنيع ثروة كبيرة، ويعوض الصين عن الانهيار الخطير في سوق الإسكان.
وفي الوقت نفسه يرى عالم السياسة الخارجية الصينية مزايا لفوز "ترامب" في الانتخابات، فالصين تشعر بأنها محاصرة بشكل متزايد بالجهود الأمريكية، وخاصة من قبل إدارة الرئيس جو بايدن؛ لتعزيز التحالفات مع العديد من جيران الصين: اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين والهند، وقبل كل شيء تايوان. ومن المحتمل أن تستمر "هاريس" في هذه الجهود، وترامب" أقلّ التزامًا بالبناء والحفاظ على التحالفات الدولية، كما أظهر "ترامب" اهتمامًا أقلّ بالدفاع عن تايوان، وهذا أمر مرحب به للغاية في بكين.
وتشعر أوروبا بأن هذه الانتخابات الأمريكية هي نهاية حقبة، بغضّ النظر عن النتيجة، واعتمادًا على من تتحدث إليه في أوروبا، فإن فوز "ترامب" إما كابوس أو هدية، ويعتبر "ترامب" حركة النازيين الجدد المتنامية في أوروبا -في المجر وإيطاليا وألمانيا وأماكن أخرى- زعيم حركتهم، وإذا استعاد البيت الأبيض فإنه سيعزز ويطاق خطهم المتشدد بشأن الهجرة والهوية الوطنية.
في الوقت نفسه يشعر معظم قادة أوروبا الغربية بقلق عميق. ويمكن أن يعني حديث "ترامب" عن فرض تعريفات جمركية بنسبة 20 في المائة على كل شيء يباع لأمريكا، بما في ذلك الصادرات الأوروبية، كارثة لاقتصاد أوروبا. وبالطبع تحدث "ترامب" مرارًا وتكرارًا عن مغادرة حلف شمال الأطلسي، وحتى لو لم تغادر الولايات المتحدة حلف شمال الأطلسي "الناتو" رسميًّا، يمكن أن يقوض "ترامب" بشكل قاتل مصداقية التحالف إذا قال: "لن أذهب للقتال من أجل بعض الدول الأوروبية الصغيرة"، وإذا فازت "هاريس" هناك شعور بأنها أيضًا ستكون منشغلة في الداخل وأكثر قلقًا بشأن الصين، وستتوقع من الأوروبيين أن يفعلوا المزيد لأنفسهم. هناك شعور ملموس في أوروبا بأن بايدن ربما كان آخر رئيس أمريكي مرتبط شخصيًّا بتحالف تمت صياغته في الحرب الباردة.
أعلن دونالد ترامب أن "التعريفة الجمركية" هي "أجمل كلمة في القاموس، أكثر جمالًا من الحب، أكثر جمالًا من الاحترام"؛ لذلك فإن هذه الانتخابات هي، من بين أمور أخرى، استفتاء على النظام التجاري العالمي بأكمله؛ حيث يختار الناخبون الأمريكيون خيارًا يمكن أن يؤثر على العالم بأسره، ومن المحتمل أن تواصل "هاريس" إذا تم انتخابها، التعريفات الجمركية المستهدفة على البضائع الصينية؛ لأسباب أمنية وطنية، ويعد "ترامب" بوعد أكثر عدوانية بكثير؛ حيث يحدد مستويات التعريفة الجمركية التي لم تشهدها منذ ما يقرب من قرن: 10 إلى 20 في المائة على معظم المنتجات الأجنبية، و60 في المائة أو أكثر على البضائع المصنوعة في الصين.
وسيؤثّر هذا على أكثر من 3 تريليونات دولار من الواردات الأمريكية، ومن المحتمل أن يتسبب في حروب تجارية متعددة؛ حيث ترد الدول الأخرى بتعريفات جمركية خاصة بها، هل يمكن لـ"ترامب" القيام بذلك ببساطة؟ نعم، يمكنه ذلك؛ لديه سلطة قانونية واسعة. وهذا يعني أن الولايات المتحدة تقوض قواعد التجارة الدولية الكبيرة التي ساعدت في إنشائها.
أصدرت الولايات المتحدة المزيد من الكربون أكثر من أي بلد في التاريخ، وهي ثاني أكبر مصدر للانبعاثات الآن بعد الصين، وسوف يؤثر ما تفعله بعد ذلك على قدرة العالم بأسره على تجنب تغير المناخ الكارثي، وإذا تم انتخاب "هاريس" فمن المرجح أن تمضي قدمًا في سياسات "بايدن" للتحول إلى الطاقة المتجددة وتقليل انبعاثات الكربون، ومن غير الواضح ما إذا كانت ستقيد إنتاج النفط والغاز؛ حيث تنتج الولايات المتحدة الآن المزيد من النفط والغاز أكثر من أي بلد آخر على الإطلاق، وقد لا يلغي "ترامب"، إذا فاز، سياسات عصر "بايدن" بالكامل، لكنه يمكن أن يلغي عشرات التدابير التي تنظم الانبعاثات من السيارات ومحطات توليد الطاقة؛ مما يقضي على قدرة البلاد على خفض الانبعاثات بسرعة كافية.
ويهتم الإسرائيليون بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، فإذا كان بإمكانهم التصويت في الانتخابات، فإنهم سيصوتون بأغلبية كبيرة لـ"ترامب"، وتظهر الاستطلاعات ذلك بوضوح. ولكن بصرف النظر عن الفائز، فمن المحتمل أن يكون التأثير طويل الأجل محدودًا.
فالإسرائيليون -ناهيك عن الحكومة- يعارضون بشدة قيام دولة فلسطينية وحلّ الدولتين أكثر من أي وقت مضى خلال العقود الماضية، ومن غير المرجّح أن يتمكّن أي رئيس أمريكي من تغيير ذلك، ومن المحتمل أن تضع الرئيسة "هاريس" المزيد من الضغط على إسرائيل للتوصل إلى هدنة، وفتح المحادثات مع الفلسطينيين، ولكن من غير المرجح أن تقوم، على سبيل المثال، بقطع الدعم العسكري عن إسرائيل.