
ليس غريبًا أن تقتل إسرائيل صوت الحقيقة والضمير؛ فقد قتلت من قبل الأطفال في أحضان أمهاتهم، والنساء في بيوتهن، والضعفاء وكبار السن على أسِرّتهم. من يرتكب كل هذا علنًا لن يتورع عن إسكات الكاميرا التي تفضح جرائمه، أو إسقاط الصحفي الذي يروي للعالم ما يجري على الأرض. إنها سياسة متجذرة في تاريخ طويل من العدوان، حيث يتحول استهداف المدنيين إلى أداة، وقمع الشهود إلى استراتيجية، بينما يقف المجتمع الدولي على حافة العجز، يتأمل المشهد وكأنه قدر لا يُرد.
أمس (الحادي عشر من أغسطس 2025) تم قصف متعمد لخيمة الصحفيين قرب مجمع الشفاء في غزة، لتسقط على من لا يملكون سوى الكاميرات وكتابة سطور الضمير. لم يكن هذا المشهد وليد لحظة جنون، بل تتويجًا لمسار طويل من العنف الممنهج ضد الإعلاميين من قبل العدو المحتل، وهو تاريخ ممتد، ولعل من أبرز شواهده رفح 2003 حيث قُتل المصور والمنتج جيمس ميلر، إلى غزة 2008 حين قضى فضل شناعة مصور “رويترز” تحت قذائف الدبابات، إلى برج الجلاء المدمَّر في 2021، إلى الرصاصة التي أنهت حياة شيرين أبو عاقلة في 2022، إلى المصوّر عصام عبد الله في جنوب لبنان 2023، وصولًا إلى حرب غزة الحالية التي كسرت كل الأرقام القياسية في قتل الصحفيين والأطفال والأبرياء.
هذه ليست «أخطاء عملياتية» — إذا تكرّمت الرواية الإسرائيلية بالتبرير — بل هي سياسة قائمة على إرهاب الكلمة وإسكات الشهود. إن استهداف صحفيين يرتدون سترات “PRESS” ويحملون بطاقات اعتماد واضحة هو رسالة إرهاب واقعية، متعمدة، وممنهجة.
المشهد العالمي أمام هذا العدوان المتكرر مشين بقدر ما هو مخزٍ. الإدانات تصدر تباعًا من الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والمنظمات الحقوقية، لكنها تتبخر عند أبواب السياسة الواقعية، حيث يقف الفيتو في مجلس الأمن كصك حصانة لإسرائيل. التحقيقات المستقلة — إن وجدت — تُجرى، لكن نتائجها تُدفن في أدراج مغلقة، بينما تتواصل الغارات وكأن شيئًا لم يكن. لقد تحولت حرية الصحافة، في زمن النزاعات، إلى بند هامشي في صفقات السياسة الكبرى، وتراجعت قيمة حياة البشر إلى الصفر في سياسة العدو المحتل.
ليس المطلوب مزيدًا من المقالات الغاضبة أو الصور الصادمة — فالعالم شاهد بما فيه الكفاية. المطلوب هو أن تتحرك الدول التي تمتلك فعليًا مفاتيح الضغط على إسرائيل، من واشنطن إلى بروكسل، ومن العواصم الإقليمية المؤثرة إلى القوى الصاعدة في آسيا وأمريكا اللاتينية. هذه الدول تستطيع — إن أرادت — أن تفرض كلفة سياسية واقتصادية على استمرار هذا السلوك، من خلال العقوبات الموجهة، ووقف الإمدادات العسكرية، والدفع بقرارات ملزمة أمام المحاكم الدولية.
إن استمرار الصمت الفعلي ليس حيادًا ولا عجزًا، بل تواطؤ. كل يوم يمر بلا تحرك حقيقي يمنح المعتدي ضوءًا أخضر لمواصلة الجرائم المخالفة لكل الأعراف الدولية وقواعد الاشتباك، ومن ذلك تدمير ما تبقى من حرية الكلمة في المنطقة. وإذا كان العالم يدّعي الدفاع عن القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن ساحة الاختبار الحقيقية الآن ليست المؤتمرات الدولية، بل حماية الأطفال والأبرياء، ومنهم الصحفيون الذين يقفون في الخطوط الأمامية للحقيقة، في شجاعة لا يمتلك ربعها رؤساء الدول التي يمكنها التأثير في قرارات العدو المحتل.
هل على العالم أن ينتظر المزيد؟