من الوارد اعتماد الزعماء والقادة لغة صارمة وحادة في خطاباتهم الرسمية وتصريحاتهم العلنية؛ للتعبير عن حساسية مواقف دولهم إزاء قضية ما، ومن الوارد أيضاً لجوئهم إلى التهديد كوسيلة ضغط على خصومهم، ولكن إذا استعان رئيس دولة بالإهانة - رغم أنها غير واردة دبلوماسياً- مع اللغة الصارمة والتهديد في موقف واحد ليردع نظيرًا له عن الإقدام على فعل معين، فإنه يكون بذلك قد استنفد معه كل طرق التعبير الجدية المتاحة للتعامل مع هذا الطرف، ولم يعد من خيار أمامه سوى التعامل معه بالقوة، وذلك ما حدث تماماً بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، في رسالة وجهها الأول إلى الثاني في التاسع من شهر أكتوبر الجاري، قبل يوم واحد من شن "أردوغان" حملته العسكرية الدموية على الأكراد في شمال سوريا.
وبتحليل مضامين رسالة "ترامب" إلى "أردوغان"، وهي رسالة قصيرة لا تتجاوز عشرة أسطر، نجد أن الرئيس الأمريكي نصح نظيره التركي باتخاذ موقف سلمي في التعامل مع أكراد شمال سوريا، قائلاً له: "لنعمل على التوصل إلى اتفاق جيد"، ثم مزج نصحه بالتهديد قائلاً: "أنت لا تريد أن تكون مسؤولاً عن ذبح الآلاف من الناس (الأكراد)، وأنا لا أريد أن أكون مسؤولاً عن تدمير الاقتصاد التركي....وسأفعل ذلك. لقد أظهرت إليك عينة صغيرة بالفعل فيما يتعلق بالقس برونسون"، ثم لجأ "ترامب" إلى استمالة "أردوغان" بلغة المصالح، فأخبره أن القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي مستعد لتقديم تنازلات لتركيا لم يقدمها الأكراد من قبل، وأرفق له بنسخة من رسالة "مظلوم"، كما طالبه بأن يضع الموقف الدولي في الاعتبار، قائلاً له: "لا تخذل العالم".
وسعى "ترامب" في الرسالة إلى إقناع "أردوغان" بتوضيح الخيارات المتاحة أمامه بالنسبة للنتائج المتوقعة للعملية العسكرية التركية، التي أعلن عن اعتزام شنها قبل كتابة الرسالة، قائلاً له: "سيتذكرك التاريخ بالإيجاب إذا أمكنك إنهاء هذا بطريقة إنسانية، أو سيتذكرك للأبد بأنك شيطان إذا لم تحدث أمور جيدة"، وفي محاولة أخيرة لثنيه عن خيار الحرب ودفعه إلى خيار السلام، استعمل معه لهجة صارمة مشوبة بالإهانة قائلاً له: "لا تكن رجلاً متعنتاً. لا تكن أحمق"، إمعاناً منه في إبعاده عن تنفيذ العملية العسكرية، التي شنها بالفعل بعد ساعات من تلقيه رسالة "ترامب".
ولا يمكن التغاضي عن ما تشير إليه الإهانة في الرسالة، فـ"ترامب" لم يصف "أردوغان" بـ"الحمق" عرضاً من غير قصد وإنما متعمداً، والدليل على ذلك تسريب الرسالة إلى وسائل الإعلام الدولية، ما يعني أن "ترامب" تعمد إهانة "أردوغان" مرتين، سراً وعلناً، والنية العمدية لـ"ترامب" في وصف "أردوغان" بـ"الحمق" تعبر عن نظرة "ترامب" الحقيقية إلى نظيره التركي.
وبرفض "أردوغان" الخيار السلمي، خيار المفاوضات التي كانت ستُبنى على تعهدات كردية إلى واشنطن بتقديم تنازلات غير مسبوقة تتجاوب مع المصالح الأمنية التركية، يكون "أردوغان" قد اختار المسار المعبر عن الطابع الطاغي على شخصيته، وهو الطابع العدواني، ويكون بذلك قد استحق أن يصبح في نظر العالم "شيطاناً" لا إنسان بحسب ما خيره "ترامب".