عيّن ملك بريطانيا تشارلز الثالث رسميًّا، زعيم حزب العمال كير ستارمر رئيسًا للوزراء، خلال اجتماع أمس في قصر باكينغهام، الذي نشر صورة تُظهر الملك مصافحًا "ستارمر"، الذي حقق حزبه فوزًا ساحقًا في الانتخابات.
ومنذ 2010، أثار تعاقب الأزمات، من الانقسامات الناجمة عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكسيت" في ديسمبر 2020، إلى إدارة جائحة "كوفيد-19"؛ فضلًا عن الأسعار المرتفعة ومستويات الفقر العالية والنظام الصحي العام المتهالك والتغيير المستمر لرؤساء الحكومة، تطلعًا كبيرًا إلى التغيير؛ مما دفع المحافظين إلى الإقرار بأنهم لا يسعون للفوز، وإنما فقط للحد من حدة فوز حزب العمال.
وفي ظل هذه الظروف، كلف الملك تشارلز الثالث كير ستارمر، وهو محام سابق متخصص في مجال حقوق الإنسان ويبلغ من العمر 61 عامًا، تشكيل الحكومة الجديدة، بعد أن أعاد حزبه إلى يسار الوسط، وتعهد بإعادة الجدية إلى السلطة؛ وفقًا لـ"فرانسر برس".
وبشعره الرمادي الممشط جيدًا، وأسلوبه الصارم، ونبرته الهادئة، ومنهجيته الدائمة في العمل؛ يعتبر "ستارمر" شخصية غير نمطية في السياسة البريطانية، فبعيدًا عن مغامرات بوريس جونسون وليز تروس، واليساري جيريمي كوربين، أو حتى اليميني المتطرف نايجل فرج؛ يبرز زعيم حزب العمال بقدرته على التقدم بخطى أكثر تمهلًا وحذرًا.
ورغم أنه سيخلف ريشي سوناك في رئاسة الوزراء؛ إلا أنه غير معروف جيدًا لدى عموم البريطانيين؛ وهو ما يستغله منتقدوه لإظهاره على أنه شخص "متردد" و"مزعج" بعض الشيء؛ لكن منذ 2020 أظهر المحامي السابق تصميمًا ثابتًا على إعادة ضبط مسار حزبه وكذا إرادة واضحة في تولي منصب رئيس الوزراء.
وتولى "ستارمر" قيادة حزب العمال، خلفًا للاشتراكي المخضرم جيريمي كوربين بعد أن تعرض الحزب في 2019 لأسوأ هزيمة له منذ 84 عامًا، فأعاده إلى الوسط، ولم يتوانَ عن تسليط الضوء على أصوله المتواضعة لإظهار مدى اختلافه عن نظرائه في المشهد السياسي، فوالدته ممرضة مصابة بداء التهاب المفاصل مما يمنعها من التنقل، ووالده صانع أدوات؛ وهو ما يتناقض مع خصمه المحافظ ريشي سوناك؛ إذ هو مليونير وابن مهاجريْن من أصل هندي، قدما إلى المملكة المتحدة، واتبع مسارًا نموذجيًّا للنخب البريطانية.
ونشأ كير ستارمر بمنزل صغير في لندن، ولم يذهب إلى كلية خاصة وكان الأول من بين أربعة أطفال يلتحقون بالجامعة، وأصبحت إحدى شقيقاته ممرضة، والأخرى متخصصة في البستنة؛ فيما كان شقيقه الذي تقاسم معه غرفة المنزل يعاني من صعوبات في التعلم، ودرس "ستارمر" القانون في جامعة ليدز قبل أن ينتقل إلى أكسفورد.
وبعد حصوله على شهادة المحاماة، تخصص "ستارمر" في الدفاع عن حقوق الإنسان، ونشط لعدة سنوات في الدفاع عن النقابات ومكافحة عقوبة الإعدام، ومن ثمة، دافع عن المحكوم عليهم بالإعدام في جزر الكاريبي، كما عمل على اتخاذ إجراءات قانونية ضد انتهاكات حقوق الإنسان خلال الصراع في إيرلندا الشمالية (1968- 1998). وساهم مطلع 2000 في إنشاء قوة شرطة جديدة لحفظ السلام، وفي 2008، أحدث المفاجأة حين اتخذ أول منعطف في مساره المهني؛ حيث أصبح مدعيًا عامًّا لإنجلترا وويلز. وأشرف من خلال هذا المنصب على ملاحقات قضائية طالت نوابًا متهمين بالاختلاس وحتى صحافيين متهمين بالتنصت على الهواتف.
ورغم أن معاركه ومواقفه تلك أدت إلى استهدافه بانتظام من قِبَل اليمين، الذي يتهمه بالدفاع عن "القتلة"، فقد حاز على وسام "الفارس" في 2014 من المملكة إليزابيث الثانية تكريمًا لمسيرته القانونية الطويلة.
ولتفادي هجمات اليمين وتبديد وقع برنامج سلفه جيريمي كوربن الباهظ التكلفة، تعهد "ستارمر" بقيادة إدارة صارمة للغاية للإنفاق العام، دون زيادة الضرائب. وهو يعول في هذا الإطار على استعادة الاستقرار والتدخلات من الدولة واستثمارات في البنية التحتية لإنعاش النمو؛ مما من شأنه تصحيح وضع المرافق العامة، التي تراجع أداؤها منذ إجراءات التقشف في أوائل 2010.
ويريد "ستارمر" أن يظهر حازمًا في قضايا الهجرة، وأن يقترب من الاتحاد الأوروبي، لكن دون الانضمام إليه، محذرًا في المقابل من أنه لا يملك "عصًا سحرية" - الأمر الذي ظهر أيضًا لدى البريطانيين الذين أظهرت استطلاعات الرأي أن لا أوهام لديهم بشأن آفاق التغيير.
وقامت حملته حول وعد من كلمة واحدة هي "التغيير"، مستغلًا الغضب من حالة الخدمات العامة المنهكة وانخفاض مستويات المعيشة؛ لكن لن يكون في يده إلا القليل من الأدوات التي يمكنه استخدامها؛ لأن من المتوقع أن يبلغ العبء الضريبي أعلى مستوى منذ 1949، وأن يعادل صافي الدين تقريبًا الناتج الاقتصادي السنوي.