كشف النظام التركي عن حقيقة علاقته بالعدالة، ونظرته لوظيفة القضاء في تعليقه على الأحكام الصادرة أمس في حق مَن ثبتت إدانتهم في قتل المواطن السعودي جمال خاشقجي؛ إذ ذكر المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية حامي أقصوي أن "قرار المحكمة في السعودية فيما يتعلق بمقتل خاشقجي بعيد كل البُعد عن تلبية توقعاتنا وتوقعات المجتمع الدولي بتحقيق العدالة"؛ ما يعني أن النظام التركي لا يرى في القضاء سوى أداة لخدمة مصالحه بعيدًا عن إقامة العدل وتحقيق العدالة. ووفقًا لتلك النظرة الطغيانية فإن السعودية كانت مطالبة بالتدخل في شؤون قضائها حتى تتوافق الأحكام الصادرة عن المحكمة مع توقعات النظام التركي وأهوائه.
سوءات التسييس
وليس هناك شك في أن موقف النظام التركي من الأحكام كان متوقعًا، ولم يفاجئ أحدًا من المراقبين بالنظر إلى عدم احترامه معايير تطبيق العدالة، وتسييسه نظام القضاء التركي، ولكن في الوقت نفسه كان ينتظر منه ألا يستخدم لغة في التعليق على الأحكام، تكشف سوءاته في عدم توفير العدالة للمواطنين الأتراك، وتلفت الانتباه إلى الظروف الاستبدادية التي يفرضها نظام الرئيس رجب طيب أردوغان على القضاء التركي، وترغمه على الانحراف عن تأدية مهمته في حماية المواطنين الأتراك من قمع السلطة وتغولها على حقوقهم.
وفي استعراض للظروف التي يعمل فيها القضاء التركي حاليًا من واقع شهادات وتقارير المنظمات الحقوقية الدولية المحايدة، فإن نظام "أردوغان" أباح لنفسه اعتقال الأشخاص على الشبهة دون قرينة أو دليل إدانة يبرر الاعتقال. وبحسب ما أعلنه مركز استوكهولم الحقوقي في تقريره الصادر في يناير الماضي، والمستند إلى بيانات وزارة العدل التركية، فإن نظام "أردوغان" زج بنحو 260 ألف مواطن تركي في السجون بذريعة المشاركة في محاولة الانقلاب العسكري في يوليو 2016، ولا يزال هؤلاء قابعين في السجون دون حصولهم على محاكمات عادلة.
إجراءات تعسفية
أما عن الحالة التي يعمل فيها القضاء التركي فقد بيَّنت منظمة هيومان رايتس وتش في تقريرها لعام 2019 أن "النظام التركي فرض حالة الطوارئ عقب محاولة الانقلاب لمدة عامين، وبعد انتهاء المدة تحايل واستبدل حالة الطوارئ بقانون جديد لمكافحة الإرهاب، صادق عليه البرلمان في أغسطس 2018. وتضمن القانون العديد من الإجراءات المماثلة للصلاحيات الواسعة التي تحظى بها السلطات بموجب قانون الطوارئ. ومن هذه الإجراءات توسيع صلاحيات حكام الولايات المعينين (الواسعة أصلاً) لتقييد التجمعات والتنقل، وصلاحيات السلطة التنفيذية لفصل الموظفين بقرارات إدارية، بما يشمل القضاة، وصلاحيات الشرطة، ومنها الاحتجاز لفترات قابلة للتمديد حتى 12 يومًا.
وفي ظل حالة الطوارئ، أو القوانين التي تحققها بمسميات أخرى، لا يوجد مجال لتحقيق العدل أو حماية حقوق الأفراد، وضمان سلامتهم. ويتبيّن ذلك من استغلال النظام التركي قانون الإرهاب في التنكيل بمعارضيه، وكل من لا يدين له بالولاء. فوفقًا لـ"هيومان رايتس وتش" فإن "العديد من محاكمات الإرهاب في تركيا تفتقر إلى أدلة دامغة على وجود نشاط إجرامي أو أعمال معقولة يمكن اعتبارها إرهابية، كما توجد بواعث قلق بشأن الحبس الاحتياطي المطول للمتهمين بجرائم إرهابية، ومن تحوله إلى شكل من أشكال العقاب الجماعي"؛ ما يعني افتقار القضاء التركي للمعايير التي تكفل تحقيق العدالة.
رفض الأحكام
من حالات الانتهاكات القانونية الصارخة لمبادئ العدالة الحكم في فبراير 2018 على الكتّاب (أحمد ألتان، ومحمد ألتان، ونزلي إليجاك) بالسجن المؤبد بتهم ملفقة، تتصل بالانقلاب. ورغم صدور حكم قضائي بالإفراج عن محمد ألتان بكفالة في يونيو من العام نفسه بعد صدور حكم عن "المحكمة الدستورية"، وآخر عن "المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان" بإطلاق سراحه، فإن النظام التركي رفض تطبيق الحكم، وظل أحمد ألتان في السجن إلى أن أصدرت المحكمة في نوفمبر الماضي حكمًا بسجنه عشر سنوات ونصف السنة، لكنها طلبت الإفراج عنه ووضعه تحت المراقبة القضائية؛ لأنه أمضى أكثر من ثلاث سنوات في السجن، فيما لا يزال محمد ألتان ونزلي إليجاك في السجن.
ولا تقتصر حالات الانتهاك على ما سبق؛ فلا تزال تركيا تحتل المركز الأول عالميًّا في سجن الصحفيين، ويوجد 175 صحفيًّا وعاملاً في المجال الإعلامي رهن الحبس الاحتياطي، أو في السجن بتهم إرهابية. كما يواجه مئات آخرون المحاكمة وهم في حالة سراح. وبحسب "هيومان رايتس وتش" فـ"هناك محامون لحقوق الإنسان من بين أكثر من 1500 محامٍ يواجهون محاكمات بتهم إرهابية. وتبرز قضاياهم التدهور الشديد الذي أصاب حقوق المتهمين وإجراءات التقاضي السليم في تركيا".
تعذيب واختطاف
وعن إخفاق القضاء التركي في حماية المعتقلين من التعرض للتعذيب أعربت هيومان رايتس وتش عن قلقها من استمرار التعذيب والمعاملة السيئة أو القاسية أو المهينة في مراكز الشرطة والسجون، وعدم فتح تحقيقات جدية في شكاوى التعذيب، كما أوضحت أنه "لم تفتح أي تحقيقات فعّالة في عمليات الاختطاف التي حصلت في 2017، التي تشير إلى أن أعوان الدولة نفذوها ضد ما لا يقل عن ستة رجال، ثم احتجزوهم في أماكن غير معروفة قبل أن يفرجوا عنهم بعد شهور في ظروف ترقى إلى عمليات اختفاء قسري محتملة".
وما تقدم لا يمثل سوى بعض من ملامح صورة القضاء في تركيا، وحالة التدهور التي بلغها في ظل حكم نظام "أردوغان". والمثير للاستغراب هنا أنه مع انعدام فرص تحقيق العدالة في تركيا فإن النظام التركي يريد من السعودية أن تحذو حذوه، وتتدخل في شؤون القضاء لديها حتى يُصدر أحكامًا مُرضية له، لكن من الواضح في تفسير هذه الحالة المُرضية المعقدة أن النظام التركي بلغ حالة من السوء في انتهاك حقوق مواطنيه لم يعد يعتقد معها بوجود إمكانية أمام أي دولة في العالم للاختلاف عنه.