أحدَثَ ما تزعم تركيا أنه انقلابٌ فاشلٌ، الذي شهدته تركيا في 15 يوليو عام 2016، زلزالاً ضخماً في المنطقة رافقه تضاربٌ كبيرٌ في المعلومات والتقارير.
وزعم حينها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان؛ أن الزعيم الإسلامي فتح الله غولن؛ هو العقل المدبّر لهذا الانقلاب؛ ليطلق في صبيحة تلك الليلة حركة تطهير غير مسبوقة في أجهزة الدولة كافة، شملت القطاعات الخاصة والجمعيات والجامعات والمساجد حتى رياض الأطفال، وبلغ عدد المعتقلين -بحسب صحيفة "لوموند" الفرنسية- أكثر من ٢٠٠ ألف شخص بخلاف المختفين والهاربين، وفقد ١٥٠ ألف شخص وظائفهم، فيما وُصفت بأنها أسوأ حملة على حقوق الإنسان في تاريخ تركيا!
ولتبقى رواية الحكومة التركية هي الرواية الرسمية للأحداث؛ لكن أجهزة مخابرات أوروبية وأمريكية عدة شكّكت في هذه الرواية وكشفت حقائق صادمة عن هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة تستعرضها "سبق"، في هذا التقرير: أساس اتهامات أردوغان ضد فتح الله غولن.
الانقلاب الفاشل
تلت عملية الانقلاب الفاشلة عملية ضخمة من الاتهامات لفتح الله غولن؛ مع نشر وثائق من قِبل وسائل إعلام مقرّبة من أردوغان؛ تم نسبها إلى جهاز المخابرات التركي حول محتويات المراسلات والمكالمات السرية التي زعم أنها جرت بين الانقلابيين عبر تطبيق بايلوك. وتمثل الوثائق التي قدّمها أردوغان؛ في نظره دليلاً على وقوف حركة غولن وراء هذا الانقلاب.
ورغم أنه كان مجرد تطبيق للتواصل مثل نظرائه من عشرات التطبيقات للمحادثات إلا أنه كان أحد الدليلين الرئيسين اللذين اعتمد عليهما أردوغان؛ في اتهامه لحركة غولن بتدبير المحاولة الانقلابية.
ثم ظهر العسكريون المتهمون بالمشاركة في الانقلاب على الشاشات التلفزيونية بعد إفشال الانقلاب وإلقاء القبض عليهم بادية على وجوههم وأجسامهم علامات التعذيب؛ لينقل إعلام السلطة عن أفواههم اعترافاتهم بجريمتهم وانتسابهم إلى حركة الخدمة (غولن)!
بمعنى أن أدلة الرئيس أردوغان؛ على وقوف "الخدمة" وراء الانقلاب اقتصرت على عنصرين أساسين هما: مراسلات ومكالمات الانقلابيين على تطبيق بايلوك، واعترافات المتهمين. لكن هؤلاء المتهمين أعلنوا في أول مثول لهم أمام المحكمة انتسابهم إلى التيار القومي الأتاتوركي، وأنهم لا علاقة لهم بفتح الله غولن؛ مؤكدين أن رئيس الأركان خلوصي أكار؛ كان قد رأس المجلس العسكري الانقلابي، وأنهم لم يفعلوا شيئاً سوى تنفيذ الأوامر الصادرة من رئاسة هيئة الأركان العامة.
تقارير المخابرات الدولية
تقارير مخابراتية عدة من جهات دولية رفيعة كشفت حقائق صادمة أبرزها أن حركة فتح الله غولن؛ بريئة من جرم الانقلاب الفاشل، كما أنها شرحت ظروف وملابسات أحداث الانقلاب ومَن يقف خلفه.
تقرير المخابرات البريطانية
ورداً على اتهامات حكومة أردوغان؛ فقد نشرت مجلة "فوكس" الألمانية المرموقة مقالاً صادماً للجميع بعد أسبوع واحد من الانقلاب تحت عنوان "السلطة.. الهذيان.. أردوغان" أفردت فيه مساحة كبيرة لتقرير أعدّته المخابرات البريطانية وتشير إلى أنها حصلت على مكالمات هاتفية وبريدية مشفرة تعود لمسؤولي الحكومة التركية في أثناء حدوث الانقلاب الفاشل تكشف أنهم خطّطوا لإلصاق الجريمة بحركة غولن؛ حتى يختلقوا ذريعة لإطلاق حملة تصفية موسعة في أجهزة الدولة بعد إحداث جريمة الانتماء إلى حركة غولن.
وحصلت المجلة على جائزة من إحدى المؤسسات الدولية بسبب هذا المقال التحليلي.
تقرير المخابرات الأوروبية
وفي منتصف فبراير الماضي 2017 نشرت مجلة "تايمز" البريطانية تقريراً آخر أعدّه مركز الاستخبارات في الاتحاد الأوروبي في 24 أغسطس 2016، جاء مؤكداً لما توصلت إليه المخابرات البريطانية بعد أسبوع واحد من الانقلاب. وقال التقرير بشكل شبه صريح، إن أردوغان هو مَن دبّر هذه المحاولة الانقلابية وصمّمها على الفشل؛ لكي يتمكّن من الحصول على ذريعة تصفية معارضيه؛ مؤكداً أنه كان ينوي القيام بعملية تطهير شاملة ضد قوى معارضة في المؤسسة العسكرية قبل محاولة الانقلاب في يوليو 2016.
أما كون فتح الله غولن؛ العقل المدبّر الذي يقف وراء الانقلاب، فوصفه التقرير بـالاحتمال البعيد؛ معللا أن هذا الادعاء يتعارض مع تقارير الدولة التركية والمعطيات الأوروبية حول قوة ونفوذ هذه الحركة في المؤسسة العسكرية؛ آخر معاقل العلمانية بصفة خاصة وأجهزة الأمن بصفة عامة، بعد عمليات التصفية والتطهير التي نفّذها أردوغان؛ منذ نهاية عام 2013، حيث انطلقت تحقيقات الفساد والرشوة التي اعتبرها أردوغان؛ محاولة انقلاب أيضاً.
ورجّح التقرير أن تكون مجموعة عسكرية تضم معارضين للحزب الحاكم وعلمانيين وانتهازيين ومَن سمّاهم التقرير "متعاطفين" مع غولن؛ هي التي دبّرت هذه المحاولة، وذلك بسبب تخوف هذه المجموعات واستباقاً لحملة وشيكة لأردوغان توقعوا أن تستهدفهم، مستبعداً صدور أيّ أمر من غولن؛ في هذا الصدد. ولفت إلى أن محاولة الانقلاب باتت محفزةً لأردوغان؛ لكي ينفّذ عملية تطهير سبق أن خطّط لها في كل أجهزة الدولة، وفي مقدمتها المؤسسة العسكرية.
رأي "الناتو" حول انقلاب تركيا
بعد هذا التقرير الأوروبي الذي أحدث صدمة كبيرة في الداخل التركي والشارع الدولي، جاءت تقارير جديدة أيّدت ما توصلت إليه التقارير السابقة؛ حيث أعلنت مصادر بارزة في حلف شمال الأطلسي لموقع "ألدير ميرور" النرويجي الشهير، أن قادة الحلف يؤمنون بأن أردوغان؛ هو مَن دبّر انقلاباً عليه. ونقل الموقع عن مسؤول في "الناتو" قوله "إن ضباطاً مخضرمين في الحلف يحملون ثلاث وأربع نجوم، ويتعاملون مع تركيا منذ 30 -40 عاماً ويشرفون على تدريب الضباط الأتراك منذ 4 و5 سنوات، لا يرون أن ما حدث في تركيا كان انقلاباً.
وأوضح المسؤول الحلفي أن القوات المسلحة التركية من المؤكد أنها كانت ستنجح لو رغبت فعلياً في تنفيذ انقلاب؛ نظراً لأن الانقلابات تقليد وعادة متجذرة في المؤسسة العسكرية التركية. والجنود الأتراك الذين لا يزالون على اتصال بالحلف يرون أن أردوغان؛ وضع خطة منذ عام لتنفيذ الانقلاب، وأنه كان يمتلك قائمة بأسماء الأشخاص الذين خطّط لتصفيتهم ونفّذ خطته هذه في صبيحة الانقلاب الفاشل.. قائلاً أنا لم أصادف شخصاً يرى أن ما حدث هو انقلاب حقيقي!
وإذا ضمّمنا هذه التصريحات إلى التصريحات الصادمة التي أدلى بها برونو كال؛ رئيس الاستخبارات الخارجية في ألمانيا، العضو في الحلف، وهي إحدى أهم الاستخبارات في العالم لصحيفة "بيلد" الألمانية، وكذلك التصريحات التي أدلى بها رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الأمريكي ديفين نونيس؛ بخصوص الانقلاب الفاشل، فإنه يتبيّن أنها رأي "الناتو" ككل، وإن لم يعلن ذلك رسمياً لاعتبارات كثيرة.
تصريحات رئيس الاستخبارات الألمانية
وكان برونو كال؛ رئيس المخابرات الألمانية، قد قال في تلك التصريحات: "إن الحكومة التركية حاولت على مستويات مختلفة إقناعنا بأن حركة غولن؛ هي التي دبرت محاولة الانقلاب لكنها فشلت في تقديم أيّ دليل مقنع في هذا الصدد. وتابع هذه المحاولة لم تكن عملاً منظماً شارك فيه كل أجهزة الدولة.
الحكومة التركية كانت قد أطلقت حملة تصفية كبيرة حتى قبل هذه المحاولة الانقلابية وتوقعت بعض المجموعات في المؤسسة العسكرية أن تطولهم هذه التصفيات أيضا، فرأت ضرورة المسارعة إلى إحداث انقلاب لإنقاذ أنفسهم. لكنهم تأخروا وحصدتهم تلك التصفيات التي بدأت بعد إفشال الانقلاب. حتى لو لم تقع هذه المحاولة، فإن هذه التصفيات كانت ستجرى، وإن لم تكن بهذه الشدة والعمق والتوسع. فمحاولة الانقلاب باتت ذريعة مرحبة بها. لكن حركة غولن؛ ليست منظمة إرهابية؛ بل هي حركة مدنية دينية تعليمية. (ولعله يشير بعبارة مرحبة إلى وصف أردوغان لمحاولة الانقلاب بالهدية الإلهية!).
تصريحات الاستخبارات البرلمانية الأمريكية!
أما رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الأمريكي ديفين نونيس؛ فقد ساند ما قاله برونو كال؛ في الانقلاب التركي قائلاً "ليس هناك أيّ دليل يشير إلى تدبير فتح الله غولن؛ لمحاولة الانقلاب في تركيا. إدارة الرئيس أردوغان؛ تتجه يوماً بيوم إلى مزيدٍ من الاستبداد والسلطوية، لذلك تعاني العلاقات الثنائية بين البلدين توتراً"، وذلك في إطار رده على سؤال قناة "فوكس" الأمريكية حول المزاعم التي تسوقها السلطات التركية عن استعداد الولايات المتحدة لإعادة غولن؛ إلى تركيا. وتوقع أن العلاقات بين تركيا وأمريكا ستواجه مزيداً من الصعوبات بالتوازي مع زيادة الجهود المبذولة في سبيل تطهير كل من سوريا والعراق من عناصر تنظيم داعش.
التقرير الأضخم!
وفي مساء 24 مارس (2017) نشر البرلمان البريطاني تقريراً مكوناً من 70 صفحة حول محاولة الانقلاب، وهو كذلك جاء نافياً ادعاءات أردوغان؛ حول تورُّط غولن؛ وحركة الخدمة في التخطيط للانقلاب، وداعمًا للتقارير الاستخباراتية الدولية السابقة؛ حيث أكّد على نحو لا يدع مجالاً للشك أو التأويل، قائلاً: لا يوجد دليل مادي ملموس واضح على وقوف غولن وراء الانقلاب.
ويمكن تلخيص ما ورد في التقرير كما يلي: "إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أعمال العنف التي جرت ليلة الانقلاب، وضخامة حجم كل من الاتهامات الموجّهة لأنصار غولن وعمليات الفصل والاعتقال التي طالت أناساً يزعم أنهم (غولنيّون) استنادًا إلى هذه التهمة، فإننا لا نمتلك أيّ دليل مادي واضح يمكن أن نقدمه للرأي العام".
إضافة إلى ذلك، فإن التقرير البريطاني انتقد كثيراً من الإجراءات التي اتخذتها الحكومة التركية بحق مَن يشك في ضلوعهم في المحاولة الانقلابية، وخاصة أن ما يقرب من مائة ألف شخص طُردوا بشكل نهائي من وظائفهم، بينما تمّ توقيف ما بين 43 ألفاً بشكل مؤقت.
ويشير التقرير إلى أن كثيراً من هؤلاء الذين فقدوا وظائفهم تعرّضوا لأشكال أخرى من العقوبات ومظاهر الاضطهاد. كما يبدي التقرير الخشية من احتمال أن تكون معلومات الفصل والاعتقال هذه غير دقيقة بالنظر إلى ما يتردّد من روايات وينشر من تقارير، ويعرب عن أسفه لشمول أعداد كبيرة من الأبرياء في عقوبات نالتهم دون ذنب منهم لمجرد الريبة.
ورأى التقرير "أن المخاطر الأمنية التي مثلتها محاولة الانقلاب ويمثلها الإرهاب في تركيا كبيرة وحقيقية، إلا أن حجم عمليات التطهير يجعل من الصعوبة بمكان الجزم بأنها كانت ضرورية أو مثلت رد فعل معقول"، وأكّد "أن تردي أوضاع حقوق الإنسان في تركيا سبق المحاولة الانقلابية، إلا أن الانقلاب والإرهاب باتا يستخدمان ذريعة لمزيد من الانتهاكات، الأمر الذي ينال من أصول الثقافة الديمقراطية في البلاد".
رأي غولن في الانقلاب وتحديه أردوغان
أما المتهم فتح الله غولن؛ فكان أول مَن استنكر محاولة الانقلاب في تلك الليلة بعبارات واضحة نفى فيها كل الاتهامات الموجّهة إليه قائلاً: "أشيد بالشعب التركي لوقوفه بكل أطيافه صفاً واحداً إلى جانب الديمقراطية ضد محاولة الانقلاب، إيماناً منه بأن زمن التدخلات العسكرية قد ولى دونما رجعة. لا شك أن فشل المحاولة الانقلابية حدث تاريخي عظيم، حيث استطاع الشعب أن يحبط عملية غير ديمقراطية استهدفت الإطاحة بحكومة منتخبة".
ولم يكتف بتكذيب مزاعم أردوغان؛ بل تحداه مطالباً بتشكيل لجنة دولية لتتولى التحقيق في ملابسات الانقلاب من أجل الكشف عن المنفذين له والمحرّضين عليه ومعاقبتهم، معلناً أنه مستعد للعودة إلى تركيا والقتل شنقاً إذا ما أثبتت هذه اللجنة أياً من الادعاءات والاتهامات المذكورة، وهي الدعوة التي لم تلق صدى إيجابياً لدى أردوغان.
وفِي مقال جديد له في مجلة "لوموند" الفرنسية، اتهم فيه أردوغان؛ بتدمير تركيا وإعادتها إلى الوراء عقوداً طويلة، قائلاً "لقد أفسد أردوغان؛ الديمقراطية التي كانت بمنزلة بشرى خير على تركيا، وذلك من خلال إحكام قبضته على أجهزة الدولة ومصادرة شركات كبيرة ومكافأة المتآمرين معه. كما أعلنني عدواً للدولة واتهمني والمتعاطفين معي بأننا السبب وراء كل الشرور والمشكلات التي وقعت في التاريخ القريب من تركيا، وذلك من أجل إحكام قبضته على السلطة والتأثير في توجهات الرأي العام التركي. وهذا يعد نموذجاً مثالياً في استغلال شخص أو جماعة كفزاعة أو ككبش فداء.
لقد اعتقل نظام أردوغان؛ مئات الآلاف من الأشخاص الذين ينتقدون سياسته، وخصوصاً المنتمين إلى حركة "الخدمة" السلمية.
وتابع "لقد تعرّض كل مَن انتقد سياسات أردوغان؛ إلى عديدٍ من الممارسات القمعية، بدءاً من نشطاء احتجوا باسم البيئة، وصحفيين، وباحثين جامعيين، وأكراد، وعلويين، ومواطنين غير مسلمين، وبعض الجماعات الإسلامية. ودُمرت أسر وحيوات من جرّاء الاعتقالات العشوائية والطرد التعسفي وحالات ظلم أخرى.
وبسبب هذا الاضطهاد المستمر، اضطر الآلاف من المتطوعين في حركة "الخدمة" لطلب اللجوء إلى بلدان أوروبية، كفرنسا.
وأردف قائلاً مازالت حملة الاعتقالات الجماعية التي تدين آلافاً من الأبرياء بسبب تعاطفهم مع فرد ما أو جماعة ما مستمرة في تركيا. فقد فقَد أكثر من 150 ألف فرد عملهم، ووضع أكثر من 200 ألف شخص في السجن الاحتياطي، واعتُقل أكثر من 50 ألف منهم. أما المواطنون الموضوعون تحت المراقبة لأسباب سياسية الذين يريدون مغادرة البلاد فمحرومون من حقوقهم الأساسية -التي نصت عليها الأمم المتحدة- في حرية التنقل بسبب إلغاء جوازات سفرهم.
واختتم مقاله، بالقول "إن تركيا اليوم قد علّقت العمل بالديمقراطية وحقوق الإنسان ووضعتهما جانبا. ومع الأسف، فقد فوتت تركيا -كدولة ذات أغلبية مسلمة- على نفسها فرصة تاريخية للوصول إلى الديمقراطية على النسق الأوروبي. وقد كان ذلك ممكناً بشكل واقعي قبل عشر سنوات.
إنني أرجو أن تتمخض هذه التجارب المريرة والحزينة التي تعيشها تركيا وبعض البلدان ذات الأغلبية المسلمة عن وعي جماعي بأهمية بث روح الديمقراطية وسيادة القانون وإجراء انتخابات حرة وعادلة واحترام الحريات والحقوق الأساسية للأفراد".