قبل فترة وجيزة ظهر الرئيس الأمريكي السابق "باراك أوباما" في منتدى الديموقراطية في مدينة شيكاغو، ليقول حديثًا يمثل الصورة الحقيقية لقيم أمريكا وتلوّنها نحو القيم الإنسانية. ظهر بثوب الواعظ مناصرًا للإنسانية إلى حدّ ما، وهو الذي كان يقوم بعكس ذلك تمامًا إبّان فترة رئاسته التي لم يثن عليها أحد.
قال أوباما: "من المستحيل أن تكون محايدًا في مواجهة هذه المذبحة. من الصعب أن تشعر بالأمل. إن صور العائلات الحزينة والجثث التي يتمّ انتشالها من تحت الأنقاض، تفرض علينا جميعًا مسؤولية أخلاقية. من المهم الاعتراف بالحقائق المتناقضة، تصرفات حماس كانت "مروعة لكن الاحتلال وما يحدث للفلسطينيين لا يُطاق. هناك أشخاص يموتون حاليًّا لا علاقة لهم بما فعلته حماس".
لقد دعم أوباما أثناء فترة حكمه في الولايات المتحدة، الحربَ التي شنّها الكيان الصهيوني المحتلّ على قطاع غزة في عام 2014، كما عقدت إدارته مع إسرائيل اتفاقية طويلة الأمد تمدّ إسرائيل بدعم سنوي يصل إلى "3.8" مليار دولار سنويًّا لتطوير أنظمتها الدفاعية.
ولكن ما يمكن قوله أن هذه بإيجاز أخلاقيات الإدارة الأمريكية، وهذا باختصار الوجه البشع والحقيقي الذي يقبع خلف تشدُّقها بحقوق الإنسان والديموقراطية والعدالة، وتصنيفها الدائم لغيرها بالقصور في هذه الملفات. على أية حال، هذا ليس بجديد، وهو لم يعد يخفى حتى على حلفاء الولايات المتحدة الذين عليهم أن يطبقوا المقولة الشهيرة التي تدعو أصدقاء أمريكا أن يحذروها أكثر مما يفعل أعداؤها.
آخر مواقف الولايات المتحدة الأمريكية ضد الإنسانية، ولن يكون الأخير، هو "الفيتو" الذي استخدمته ضد قرار يدعو لهدنة إنسانية في غزة، وهو بالمناسبة للمرة الثانية؛ حيث استخدمته في نوفمبر الماضي ضد مشروع طرحته البرازيل، بينما الثاني طرحته الإمارات العربية المتحدة. هذا الموقف المخزي يعني أنه لم تعد أمريكا تستحي من أن يراها العالم هكذا منكشفة "عارية" من كل القيم والأخلاق الإنسانية، وهو أمر يحمل مفارقة مؤلمة كبيرة عندما يتصادف وحلول اليوم العالمي لحقوق الإنسان.
تعليقًا على الفيتو: تقول المحامية الأوكرانية المعنية بحقوق الإنسان والحاصلة على جائزة نوبل للسلام، "أولكسندرا ماتفيتشوك": "إن فكرة الإنسانية لم تصبح بعد أساسية لسياسة الدولة، وقبل كل شيء لتفكيرنا.. عندما يناقش الناس الحرب في الشرق الأوسط، فإن السؤال الأول: إلى أي جانب تقف؟ ولكن يجب علينا أن نقف مع الإنسانية.. كل حياة لها قيمة، حياة في إسرائيل، وحياة في فلسطين، وحياة في أوكرانيا".
ولعله من المثير للسخرية النظر لتصريح وزير الخارجية الأمريكي "أنتوني بلينكن"، في وقتٍ سابق: "دعونا ندرك أننا لسنا راضين عن الطريقة التي تسير بها الأمور، لكن دول الجنوب العالمي لا يمكنها الآن الصراخ دعمًا لفلسطين عندما التزمت الصمت بشأن أوكرانيا.. هذا معيار مزدوج لا أحد يتحدث عنه".
يا بطل المعايير المزدوجة، كيف لك أن تقول هذا وبكل هذه البجاحة! هل هذا منطق مسؤول كبير بهذا الحجم! الإنسانية لا يلغيها ولا يبرر تجاهلها أن أحدًا لم ينتقد حدثًا مماثلًا! بل يعيبها أن يتم التعامل معها بهذه الازدواجية المنتنة.
تصريح آخر أكثر ألمًا يتفق مع وصف ما قامت به الولايات المتحدة بجريمة ضد الإنسانية؛ هو ما قالته "فريل بينوا" المديرة التنفيذية لمنظمة "أطباء بلا حدود"، والتي اعتبرت استخدام واشنطن لحقّ النقض "الفيتو" ضد مشروع قرار بمجلس الأمن الدولي بشأن وقف إطلاق النار في غزة التي تتعرض لعدوان إسرائيلي؛ يجعلها "متواطئة في المذبحة" بالقطاع.
مضيفة: "بينما تستمرّ القنابل في الهطول على المدنيين الفلسطينيين، وتسبب دمارًا واسع النطاق، استخدمت الولايات المتحدة مرة أخرى قوتها لعرقلة محاولة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للمطالبة بوقف إطلاق النار في غزة! من خلال استخدام حقّ النقض ضد القرار، تقف الولايات المتحدة وحدها في الإدلاء بصوتها ضد الإنسانية، ويجعلها ذلك متواطئة في المذبحة في غزة! حقّ النقض الأمريكي يتناقض بشكل حادّ مع القيم التي تدعي "واشنطن" أنها تتمسّك بها.
وتحذر: "... ومن خلال الاستمرار في توفير الغطاء الدبلوماسي للفظائع الجارية في غزة، تشير الولايات المتحدة إلى أن القانون الإنساني الدولي يمكن تطبيقه بشكل انتقائي، وأن حياة بعض الناس أقلّ أهمية من حياة الآخرين.. إسرائيل مستمرّة في هجماتها العشوائية ضد المدنيين والمنشآت المدنية، وفرض حصار يرقى إلى مستوى العقاب الجماعي لجميع سكان غزة، وإجبارهم على النزوح الجماعي، وحرمانهم من الحصول على الرعاية الطبية الهامة والمساعدات الإنسانية".
"الفيتو" الذي اغتال القرار حصل على 12 صوتًا مؤيدًا، مقابل صوت واحد رافض "الولايات الأمريكية"، وامتناع المملكة المتحدة عن التصويت، وذلك خلال جلسة طارئة عقدها مجلس الأمن للتصويت على مشروع قرار قدمته الإمارات وشاركت فيه أكثر من "80" دولة. المشروع دعا فقط إلى "وقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية"، كما دعا إلى "الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن"، و"ضمان وصول المساعدات الإنسانية". ولكن بسبب الفيتو الأمريكي لم يمرر، وذلك برغم الانتقادات المتتالية؛ ومنها موقف الأمين العام "أنطونيو غوتيريش"، والدول العربية والعالمية، والمنظمات الأممية.
لقد كان من اللافت هذه المرة لجوء الأمين العام للأمم المتحدة "أنطونيو غوتيريش" إلى المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، التي سمحت له بالدعوة إلى اجتماع لمجلس الأمن بشأن "قضية قد تؤدي إلى تفاقم التهديدات القائمة لصون السلام والأمن الدوليين"، وهو إجراء نادر لم يتم استخدامه، منذ عام 1989.
وقال الأمين العام: إنه أرسل خطابه إلى مجلس الأمن مستخدمًا المادة 99 من الميثاق؛ "لأننا وصلنا إلى نقطة الانكسار. هناك خطر كبير للانهيار التامّ لنظام الدعم الإنساني في غزة، بما سيُخلف عواقب مدمرة". أما الحجج الأمريكية الواهية، فهي مستمرّة بذريعة أو بغيرها، وأقلّها أن المشروع لم يشر للهجمات التي قامت بها حماس ضد إسرائيل، وأنه "يفتقر للمشاورات المناسبة وبنية صادقة، وتم تجاهل مقترحات واشنطن"! منذ متى يجب على الحقّ الإنساني أن يرضخ لصيغة مقترحة من أي كان!
أصداء التألم كثيرة، ولكنها بكل شفافية غير قادرة على عمل شيء!. تقول الرئيسة والمديرة التنفيذية لمنظمة أوكسفام أمريكا، "آبي ماكسمان": "ما حصل يضع مسمارًا آخر في نعش مصداقية الولايات المتحدة في مسائل حقوق الإنسان"، وتقول الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية "أنييس كالامار": من خلال استخدام حق النقض ضد القرار "أظهرت الولايات المتحدة تجاهلًا قاسيًا لمعاناة المدنيين في مواجهة عدد مذهل من القتلى والدمار الواسع النطاق والكارثة الإنسانية غير المسبوقة" في غزة.
الحقيقة أن كلّ هذا مجرد تعبيرات لن تفعل شيئًا، ولن ينصف الإنسانية سواء إلغاء ما يسمى بحقّ النقض الذي ليس له أي مبرر على كل المستويات العدلية والإنسانية وغيرها. لقد أقرّ في مرحلة ما يجب أن تُنسى، والعالم قد تخطّاه بكثير.
ختامًا: قال وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان، تعليقًا على ذلك خلال لقاء مع "PBS NewsHour": "لسوء الحظّ نرى موقفًا يرى أن وقف إطلاق النار كلمة سيئة... أشعر بخيبة أمل كبيرة؛ لأن مجلس الأمن لم يتمكّن من اتخاذ موقفٍ حازم، ونحن بالتأكيد نختلف مع أمريكا بأن هذا القرار لا يستحقّ الموافقة عليه. ما يجري في القطاع الآن أشبه بمذبحة لم يسبق لها مثيل، واعتبر ما يحصل غير مبرّر تحت أي ذريعة للدفاع عن النفس".