لقد تعوَّد العالم العربي على التعامل مع القضايا الفكرية أو السياسية، خاصة الأمنية، بما فيها قضايا الفساد، على أنها قضايا رجالية فقط، ولا دور للمرأة فيها، بتغييبها تمامًا عن ساحة النقاش.. أما الحديث عن المرأة في مجتمعنا السعودي فهو حديث ذو شجون؛ لأن "المرأة" في مجتمعنا ما زالت تشكل أهم نقاط الجدل والاختلافات بين الخطابَين: التقليدي والتحديثي. وفي طيات هذا الجدل تحظى المرأة بتغطية إعلامية دائمة مثيرة للجدل بين مؤيد لمشاركتها في الحياة العامة ومعارض متوجس لهذه المشاركة. لكنَّ تعتيمًا إعلاميًّا يمنع من كشف النقاب عن الحديث عنها صراحة، وعن موقعها من قضايا الفساد، سواء عن موقعها المتصدي في "تطهير" الفساد، أو ضلوعها ومشاركتها فيه؛ ربما لأن الأمر يعود لوجود فكرة اجتماعية "خاطئة"، مفادها أن المرأة في مجتمعنا لا تمثل نفسها، ولكن تمثل "شرف" العائلة والأسرة والقبيلة؛ وبالتالي أي إشارة واضحة لها إنما هو عار على كل هؤلاء، متجاهلين أن المرأة إنسان، كلفه الله؛ مثلها مثل الرجل، يجب أن تحاسَب على أعمالها؛ شأنها شأن الرجل، ولا يحاسَب لا العائلة، ولا الأسرة، ولا القبيلة.. كما يجب الاعتراف بفضلها في حالة قيامها بإنجازات مشرفة لها ولأسرتها وقبيلتها، كتصديها "تطهيرها" للفساد مثلاً. فالحقيقة التي قد يدركها العقل هي أن الخطاب المحلي لا يرغب في الحديث عن علاقة المرأة بالفساد، لا سلبًا ولا إيجابًا، وكأن الحديث أو الكتابة عن هذا الموضوع عورة لا يجب أن تظهر أمام الآخرين، بل تبقى بخمارها مثلها مثل المرأة على السواء! أو ربما يكمن العيب في خوف هذا الخطاب من الاعتراف علنًا بأنه من الممكن أن نجد المرأة ضالعة في قضايا الفساد، وقد يكون خفيًّا لكنه موجود. ولعل المتابع والمراقب بشكل كبير لقطاعات البنوك والشركات الكبرى والجامعات والكليات، حتى مدارسنا في التعليم العام وما يحدث فيها، سيعرف تمامًا أنه يوجد هناك أوكار للفساد، صغرت أو كبرت.. ربما لأنها تطمس وتغيب بناء على الأهواء، أو من باب "الستر"، كـعرف نراه عرفًا فاسدًا، يخرجنا عن أمور لا يقرها العقل، ويرفضها الشرع. فقد يوجد من النساء من تتلاعب بالمال العام، إما بعلمها "مكرًا ودهاء"، أو ربما جهلاً منها بالأنظمة والقوانين، خاصة ممن تتلقى الأوامر الشفوية (مشافهة) من رؤسائهن في تسيير المعاملات المالية؟! لأن البعض من مديري هذه القطاعات (بقصد أو دون قصد) يأمرهن بأن يسيِّرن هذه (المعاملات) رغم معرفته أنها مخالفة للنظام (القانون)؛ لأنه يرى أن هذه المعاملة ستمر بعملية "بيروقراطية" طويلة – من وجهة نظره - مما يجعله يصدر أمره العاجل بصورة "شفوية"؟! في المقابل تجد الكثير منهن (المرؤوسات) تتقبل هذا الأمر بشكل عادي جدًّا؟!! وهذا مما يعرضهن لضعاف النفوس "الفاسدين" من مديريهن؛ لأن الأغلب منهن تخجل (تستحي)؟! وهذا مما يعاني منه الكثير من قائدات المدارس ومديرات وموظفات الإدارات الحكومية والأهلية من قرارات مديريهن "الشفوية"، خاصة فيما يتعلق بالشؤون المالية؛ فالبعض من مديري هذه القطاعات يوجه ويصر على تنفيذ أوامره (أمره) بدون أن يصدر خطابًا "مستندًا" رسميًّا مستغلين بذلك عبارة "وفق ما تقضيه مصلحة العمل"، ويهددهن بأنهن سيكُنَّ عرضه للمساءلة في حال تقاعسهن عن تنفيذها؟!! وعادة ما ترد هذه العبارة، وهي جملة "مطاطية"، تخضع لما يراه المدير (الرئيس) بأنها تصب في مصلحة العمل!! وبالتالي يمكن استخدامها في تمرير ما يريد "تمريره"، وذلك في الأمور المالية وتبريرها بمصلحة العمل؟! وللأسف الشديد، إن الكثير منهن تستجيب لهذا الأمر من دون أن تتلقى خطابًا "مستندًا" رسميًّا، يخولها نظامًا بالقيام به. وكما هو معروف، فإن "الجهل بالقانون (الأنظمة) لا يعفي من العقوبة". وهذه قاعدة قانونية ثابتة، وُجدت منذ أن وُجد القانون نفسه. كما يمكن أن يُقال إن الجهل بالحدود التي نصت عليها الشريعة الإسلامية لا يعفي من العقوبة. وقد قيل "القانون لا يحمي المغفلين". وهذه الحالات (أصبحت مع الوقت من المسلَّمات)، نسمعها من هنا وهناك.. وتحصل هذه الحالات ممن يعملن في قطاعات التعليم العام، خاصة قائدات المدارس اللاتي غالبًا ما يستقبلن (يتلقين) الأوامر من رؤسائهن الرجال أو النساء بصورة "شفوية". وذلك فيما يتعلق بالأمور المالية في حال "الصرف" على أعمال الصيانة بمرافق المدرسة، أو شراء الأجهزة والمستلزمات المدرسية، أو الصرف على الرحلات والزيارات والأنشطة الصفية واللاصفية.. وهذا مما يعرضهن للدخول في عملية الفساد من أوسع أبوابه، بغض النظر عن قلة أو ارتفاع قيمة المبلغ المرصود لهذا النشاط. فما بالكم بنسائنا العاملات في قطاعات البنوك والشركات المحلية والدولية الكبرى، اللاتي جل وظائفهن تدخل (تعتمد) على المال "أولاً" في تسيير أعمال هذه القطاعات في مشروعاتها التجارية والمالية؟؟ وهذه مشكلة تكمن في أن المدير الأدنى أو الأعلى (رئيس الدائرة أو القطاع) يعد صاحب القرار النهائي "كمفهوم"؟! مما يجعل هذه الموظفة (المرؤوسة) تخشاه في حال الرفض، بل سيعاقبها إن طلبت خطابًا (مستندًا) رسميًّا، تستند إليه، وإن لم تستجب له سيتم مضايقتها في وظيفتها. ومن هنا تفضل الموظفة الصمت؛ لأن (المدير/ ة) السلبي يرفض حتى (فتح باب) المناقشة مع موظفيه، وكل المطلوب أن ينفذوا الأوامر "الشفوية" حتى لو كانت بطريقة خاطئة إداريًّا أو مخالفة للنظام (القانون). وهذه الطريقة أبعد ما تكون عن الروح الإنسانية، التي تبعث على المحبة والتعاون بين الأشخاص، سواء في الأمور الحياتية، أو في مجالات العمل؛ إذ يجب أن توضح هذه الأنظمة والقوانين لتحقيق العدالة والأمانة المهنية كحد أدنى لحفظ حقوق الموظفة، ومنها الأمور المالية؛ حتى لا تكون عرضة في معركة "تطهير" الفساد؛ لأن المعرفة بالأنظمة والقوانين تجبر مديرها (مديرتها) على احترامها، وعدم استغلالها، وعادة يخشى المدير (المديرة) الموظفة الملتزمة التي تؤدي واجبها المهني وفق واجباتها الوظيفية وحقوقها التي كفلها النظام لها.. ويمكن للموظفة استشارة من تثق بهم، أو الرجوع إلى الجهات المرجعية لجهة الموظفة، كوزارة الخدمة المدنية، أو مكاتب وزارة العمل والتنمية الاجتماعية؛ لتثق بصحة موقفها؛ وهذا ما يجعل الجميع يعمل وفقًا للنظام والقانون، وبعيدًا عن "الأمزجة" و"الأهواء".
لذا يجب أن نسير بالمرأة في مجتمعنا السعودي، ونرشدها و(نوجهها) إلى الطريق الصحيح الواجب عليها المشاركة فيه لصناعة الحياة، وبناء المجتمع، وهي مؤهلة بالعلم والخبرات والاستقلالية الذاتية.. ولا نتركها تُستغل لخدمة أهداف ومصالح من قِبل (بعض) القيادات ومديري القطاعات والمؤسسات الحكومية والأهلية، ممن يسعون في الأرض فسادًا وإفسادًا. إن المرأة في مجتمعنا أثبتت نجاحاتها، ودخلت معركة البناء بكل قوة، وتسعى لترك بصماتها بكل جدارة في كل المشاريع التنموية؛ فهي قوة لا يجب الاستهانة بها، بل يجب مدها بكل الوسائل والآليات المساعدة لها على النجاح والمشاركة في تنمية المجتمع، وحفظ حقوقها، وعدم استغلالها من باب الجهل (جهلها) بالنظام، مع إعطائها كل الامتيازات والصلاحيات التي خولها النظام إياها.
وعليه، فإننا إذا تركناها دون تبيان حقوقها وواجباتها الوظيفية فإما أنها ستكون شريكًا أو وسيطًا في قضايا الفساد، التي عادة تدار خلف الكواليس (في غياهب الجب)، وعبر دواليب القطاعات التي ينخرها "سوسة" الفساد.. وهذا بالطبع سيجعلها شريكًا في الشر لدينها، وطنها، ومجتمعها وأمتها.. وإما أن تكون هي رأس الأفعى "المدبر الرئيس"، تأكل الحرث والنسل بأفكارها وأفعالها وطرقها الماكرة المتلونة بألوان "قوس قزح". ونحن وأنتم "نعرف" أن هذه الفئة وإن وجدت فهي قليلة، لكن أحببنا الإشارة إليها فقط؛ لنتمكن من تدارك الموقف قبل استفحاله، وحتى لا تعم شرور هذه الإنفلونزا "الفاسدة" الخطيرة؛ لأن الصورة التي لدى الأغلبية تستبعد دخول المرأة معترك قضايا الفساد؛ لذا نرى أنه من اللازم أن يسعى الإعلام المحلي إلى تحري الأوجه المختلفة للواقع بكل تفرعاته وتعقيداته، والدفاع عن الصورة الحقيقية للمرأة التي بدأت تدخل مضمار المشاركة في الحياة العامة بكل قوة؛ لأن المرأة قوة اجتماعية واقتصادية، لا يمكن تجاهلها؛ لأنها تبني ولا تهدم مجتمعها كما يريد أن يصورها البعض؛ لذا يجب أن نعمل على تغيير تلك الصورة السلبية التي يعكسها (بعض) أفراد مجتمعنا عن المرأة؟ إنه قرارنا، ونحن من يضع أولوياته، ويسعى نحو تفعيله بقوانين ولوائح داعمة، تنظر للمرأة على أنها إنسان قبل أن تكون أداة تُستغل.. والتعرف على طبيعة الأدوار الحالية التي تلعبها المرأة في مختلف المجالات؛ وبالتالي الوصول إلى القدرة على فهم دور المرأة المستقبلي بصورة أوضح بكثير من الصورة المرسومة لها، أو المراد رسمها لها في ذهن العالم كله.. "فقد أثبتت دراسة مهمة، أجراها البنك الدولي عن الفساد في 150 دولة أوروبية وآسيوية وإفريقية، جملة من النتائج اللافتة للنظر في هذه الدراسة، كانخفاض مؤشر الفساد وتراجع معدلاته في الدول والمؤسسات التي يزيد فيها تمثيل المرأة في مراكز اتخاذ القرار، وارتفاع معدلات الشفافية والنزاهة مع تولي المرأة المناصب القيادية. كما أن صعوبة وصول النساء إلى هذه المواقع تجعل المنافسة بينها وبين الآخرين كبيرة؛ وبالتالي عادة ما تكون المرأة المسؤولة ذات كفاءة، وحريصة بشكل أكبر على الالتزام بالقيم المهنية، والتقيد بمنظومة القيم بشكل عام...". كلها أدلة صارخة، لا تقبل الشك في أن المرأة شريك في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والأمنية رغم أنف الرافضين لمشاركتها في بناء المجتمع، رغم حقد الحاقدين، ورغم كيد المنقصين من شأنها ممن يريدون تجميد قدراتها كإنسان، بحد وظائفها، وكبت طاقاتها للعطاء وبناء المجتمع.