لطالما عانت الجزيرة العربية كغيرها من المناطق والدول في العالم من أوبئة وأمراض فتاكة، وفيروسات مختلفة على مدار التاريخ، إلا أن تعامل القيادة السياسية للبلاد مع تلك الظروف الصحية التاريخية التي ألمت بأهل الجزيرة تظل هي العلامة الأبرز، والشهادة الأكبر في حقهم.
فأوراق التاريخ تخبرنا أن وباء الإنفلونزا الإسبانية حلّ بمنطقة نجد في عام 1918م، إبان عهد مؤسس المملكة، امتداداً لما حدث في معظم مناطق العالم، ليحصد آلاف الأرواح برغم قلة عدد السكان في تلك الفترة، وما أشبه الليلة بالبارحة فقد ضرب كورونا أيضاً السعودية والعالم مسجلاً ملايين الإصابات والوفيات.
وتقصّ علينا المراجع التاريخية التي أرخت لحقبة المؤسس، قصة تفشي الإنفلونزا الإسبانية في نجد مبيدة قرى وهجر بأكملها في ربوع المنطقة، لدرجة أن تجاوز أعداد الموتى في الرياض الألف، برغم قلة عدد ساكينها في تلك الحقبة، ومثله في بريدة وعنيزة، ونحو 320 في شقراء.
ومن شدة هول هذا الوباء أطلق الناس على هذه السنة التي انتشر فيها المرض بسنة (الرحمة)، وذلك لكثرة الترحم على الموتى الذين قتلهم الوباء في ذلك العام، ويتناقل الناس الروايات عن هذه المأساة، ومنها أن النعوش تكسرت؛ من كثرة الموتى، واستعانوا بأبواب المنازل والبسط في نقل الموتى إلى المقابر، وكان شغل الناس في ذلك الوقت حفر القبور، حتى أن المحسن منهم من يقضي طوال يومه في حفر القبور لا يشغله عن ذلك إلا وقت الصلاة، أو لقيمات تعينه على عمله.
كيف تعامل المؤسس؟
ويبقى تعامل الملك عبدالعزيز مع ذلك الظرف الطارئ التاريخي، النقطة البيضاء فيما حل في نجد وأهلها، فعلى الرغم من وفاة زوجته الجوهرة بنت مساعد بن جلوي، وابنه البكر الأمير تركي بن عبدالعزيز، وانشغاله الشديد في معارك توحيد المملكة، إلا أن المؤسس سارع إلى جلب الطبيب الأمريكي بول هاريسون إلى الرياض، طالباً منه معالجة المواطنين بالمجان.. ويذكر كتاب "أطباء من أجل المملكة"، لمؤلفه بول أرميردينج، تلك القصة، فيروي أنه "في شتاء عام 1919 انتشر وباء الإنفلونزا في أنحاء العالم، ولم تعق سعة امتداد الصحراء العربية الوباء من الوصول إلى الرياض، فعندما وصل الدكتور بول هارسون إلى العاصمة كان سلطان نجد حينها فقد ابنه البكر تركي وزوجته جوهرة بنت مساعد، بسبب الإنفلونزا"، مضيفا أنه: "رغم انشغال الملك عبدالعزيز بحروب استعادة ملك أجداده وإخماد الفتن في ذلك الوقت، إلا أنه كان حريصاً على الاهتمام بصحة مواطنيه".
وينقل "أرميردينج" ما طلبه المؤسس من الطبيب الأمريكي فور اجتماعه معه، حيث قال له "إنه طلب قدومه ليس للاعتناء بصحته أو صحة عائلته، لكن السبب احتياج شعبه، وأنه قد خصص منزلاً قريباً ليكون مستشفى، وكان يريد أن تتم معالجة شعبه دون تكلفة مالية عليهم".
وساهمت تلك الخطوة الكريمة من المؤسس في علاج الكثير من المرضى، فقد ذكر "أرميردينج" في كتابه: "وعلى الرغم من هذا فقد كان بول هارسون قادراً على جلب الراحة والمساعدة لعدد من المصابين، فقد شفي معظمهم".
منطق الرحمة بين حقبتين
وعلى الرغم من مرور قرن من الزمان بين الحدثين الطارئين التاريخيين، وهما الإنفلونزا الإسبانية وكورونا المستجد، فقد كانت القيادة السعودية في الحقبتين، والتي تمثلت في المؤسس الملك عبدالعزيز آل سعود (طيب الله ثراه)، والملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان (حفظهما الله)، حريصة كل الحرص على مد يد العون والمساعدة، وتوفير العلاج المناسب مهما تكلف للجميع دون استثناء، وبدون أي كلفة مالية عليهم، وبمنطق الرحمة الذي غرزه المؤسس في أبنائه ومن ثم أحفاده.
وبنفس منطق الرحمة الذي تعامل به المؤسس مع شعبه في تلك الحقبة الزمنية، تعامل أيضاً الملك سلمان وولي العهد مع المواطنين والمقيمين أثناء جائحة كورونا، فلم يدخرا جهداً من أجل معالجة الجميع سواسية؛ فقد أمر خادم الحرمين الشريفين بتقديم العلاج مجاناً لجميع المواطنين والمقيمين ومخالفي نظام الإقامة في جميع المنشآت الصحية العامة والخاصة في كل ما يتعلق بالعلاج من فيروس كورونا.
تلك المبادرة الطيبة من القيادة السعودية جاءت من منطلق حرص خادم الحرمين الشريفين على صحة الجميع، فقد وضعت السعودية صحة المواطن والمقيم أولوية قصوى لضمان سلامة الجميع، وما يضمن الأمن الصحي للمملكة ومواطنيها ومقيميها.
ولم تكن مثل هذه المبادرة وليدة اليوم، فقد أتت امتداداً للجهود الإنسانية التي قدمتها المملكة للدول التي أصيبت بهذا الفيروس مثل الصين وإيطاليا، ولكون المقيمين على هذه الأرض هم أولى بهذه اللفتة الإنسانية، وتأكيداً على ريادة المملكة، وتميزها، وكونها مثالاً يحتذى به في التصدي لهذه الجائحة، كما أنها -لا شك- امتداد للرحمة التي غرسها المؤسس في تربة المملكة منذ بدايات توحيد البلاد، واستكمالاً لمسيرة عقود من الإنسانية في مملكة الخير.